كان الأستاذ جلال عبد العزيز رحمه الله من الرعيل الأول للإخوان المسلمين الذين رسخوا لدعوة الإسلام المعاصرة لدى كثير من الشباب المسلم.

وسيرة شخصيات هذا الرعيل الذين آلوا على أنفسهم أن يحملوا أمانة الدعوة إلى الله في وقت ترزح فيه البلاد تحت نير الاستعمار جديرة بالوقوف عندها للتأمل والتفكر والبحث، فقد حملوا الأمانة محافظين على بيعتهم مع الله نصرة لدينه وشريعته.

سطور من حياته

ولد جلال عبدالعزيز طه بمحافظة كفر الشيخ في مارس 1929م وترعرع بها، وأتم تعليمه في كلية الهندسة، وبعد تخرجه عمل مهندسًا في وزارة الاتصالات، وانتهى به الأمر وخرج على المعاش وهو مدير عام للتليفونات بكفر الشيخ حتى مارس 1989، كما كان له مجال للعمل في نقابة المهندسين بكفر الشيخ.

تعرف إلى دعوة الإخوان المسلمين في وقت مبكر حتى إنه كان يرسل للإمام البنا بعض الخطابات.

كان جلال عبدالعزيز أحد رجال النظام الخاص، مما عرّضه للاعتقال بعد حلّ الجماعة في 8 ديسمبر 1948م؛ حيث قضى عامًا ونصف العام، قبل أن يعاد اعتقاله في الحقبة الناصرية خاصةً بعد حادثة المنشية عام 1954م ليُحكم عليه بعشر سنوات قضاها كاملة، وما كادت تستقر له الحياة حتى أعيد اعتقاله بعد خروجه بشهور ليقضي ستة أعوام أخرى في السجن، وعلى الرغم من تقدم سنه فإن نظام المخلوع مبارك أبى أن يتركه فاعتقله عام 2006م لمدة ثلاثة أشهر.

وعلى الرغم من كل ذلك ظل يعمل في نشر دعوته وفكرته في مدن كفر الشيخ وقراها، وبعد وفاة الحاج علي أبو شعيشع في نوفمبر من عام 1992م انتخب عضوًا في مجلس شورى الجماعة ومسئولاً عن مكتب إداري الإخوان بكفر الشيخ حتى توفاه الله يوم الخميس 17 ديسمبر 2009م الموافق 30 من ذي الحجة 1430هـ.

خطابات الماضي والحاضر

الخطابات من الأدوات التي يلجأ لها المعتقل أو المسجون للتواصل مع ذويه بالخارج؛ ليطمئن على أخبارهم، ويطمِئنوا على ما يحدث له، ووسيلة للتعرف على نفسياتهم ونفسيته، خاصة في أوقات الشدة والرسائل التي يرغب في إيصالها لهم، وهذه الوسيلة مستمرة حتى يومنا هذا، ولقد كانت متنفسًا للأستاذ جلال في محبسه.

لقد اعتقل سنوات طويلة وتعرضت أسرته للعنت من قبل السلطة العسكرية، وعلى الرغم من ذلك كانت مثارًا للدهشة على ثباتها وتجردها لدين الله سبحانه، وكانت عاملاً قويًا لثبات المهندس جلال عبدالعزيز في رحلته داخل السجون المتعددة طيلة السبعة عشر عامًا، حتى إن والدته أثناء زيارته في سجن الواحات بعدما تكبدت مشقة مئات الأميال، قالت له: "إن عبد المنعم مكاوي قُبض عليه وعُذِّب عذابًا شديدًا فلم يهن فلو نطقت بشيء هاقطع لسانك".

على هذه التربية عاش جلال عبدالعزيز وإخوته - خاصةً أخوه حمدي مدرس الهندسة بجامعة أركانساس بأمريكا - والذي ظل على تواصله معه داخل السجن بالرسائل.

ومما كتبه الأستاذ جلال له قوله: كان خطابًا يستحق مني أكثر من الرد المألوف على الخطاب المألوف.. لست أدري لماذا جعلني هذا الخطاب مشدودًا إليك.. مشغولاً بك.. مشوقًا إليك أكثر وأكثر.. ومستشعرًا نحوك قدرًا أوفى وأعظم من الرد على خطاب أو صلة أخ بأخيه بين ظروفي وظروفك.

ويضيف قائلاً لأخيه: ومهما يكن من شيء فعاطفتي نحوك تجعلني أعيش معك كثيرًا معايشة لا ينقصها سوى اللقاء والمشاهدة.. وعجيب أمر العاطفة والحس والشعور في دنيانا هذه..!! إنها لا تعترف بالمسافات ولا تغلبها السدود ولا القيود، ولا تحول دونها البحار والمحيطات والجبال والوديان والأنهار.. مثل التي بيني وبينك.. ولا يجري الزمان عليها بالقدم والهرم وإنما تزيد الأيام صدقها صدقًا وأصالة.

أخي وصفي الروح حمدي..

لقد عشت خطابك.. عشت سطوره.. عشت كلماته.. عشت صروفه.. وإن لحروف كلمات الأحباب نبضها في قلوب أحبابهم فهي كلمات تقرؤها العين.. بل هي كلمات تطرق السمع.. بل إن لها نبضًا يتلقاها القلب، ولقد كان لكلماتك هذا النبض الذي جعل عيني تقرؤها.. وأذني تسمعها.. وروحي تنصت لها من داخلي ذلك الإنصات العميق بصداه الواسع.. حبًا لك.. وشوقًا إليك.. ورغبة عميقة صادقة في أن أراك بين سطورك وأسمعك.. وأحس أو أتحسس قلبك وخواطر هذا القلب.. الذي سعدت بدفء جواب سنوات العمر وسنسعد إن شاء الله باللقاء متى شاء الله وحيث شاء الله.

إيه أخي الحبيب.. شقيقي.. ابن أبي وأمي.. كيف دارت الأيام والسنون.. كيف كنا صغيرين في ريفنا الحبيب.. كيف جرت المقادير عليَّ.. وعليك.. وعلى الناس والأهل والأحباب.. عجبًا ورضًا بالأقدار.. أكان أذرع عمري بعمرك حاضرًا وماضيًا فأرى في اليوم أمسي وأمسك..! أعبر بك خواطري إليك.. أحادث نفسي عنك وعني.. أتراك تسمعني..؟؟!!

كم يملأ قلبي ذكراك.. كم يملأ قلبي حاضرك يا دكتور؟

ملء سمعي وإن لم أسمعك؟

ملء بصري وإن افتقدت عيني رؤياك!!

ملء وجداني.. وإن هفا قلبي حنينًا لذكرياتك معي.

وعلى رغم ما هو من محنة وتعذيب لا ينسى أن يذكّر أخاه بربه وحقيقة حياته، فيقول: ولكن.. على مر السنين.. وتباعد الديار.. والبعد عن مجالس الذكر والقرآن والتذكير.. ومشاغل الحياة واستيعابها لطاقات الإنسان ووقته.. واستبداد مشاكل العصر بخلاصة الفكر.. وتنوع مظاهر الحضارة بين حضارة نشأنا فيها بالأمس.. وحضارة أنت تحيا فيها اليوم.. لا شك أن لكل ذلك انعكاساته وانطباعاته في العقل وأفكاره وفي القلب واعتقاده وفي الشعور وأحاسيسه؛ الأمر الذي يجعل من لحظات التفكير والتأمل والتذكر والتدبر ومراجعة منهج الحياة وخط السير أمرًا ضروريًا، على الأقل: بين الآن والآن.. نعيش حقائق حياتنا الرئيسية بعمق.

أخي.. هناك محطات رئيسية للعمر عبر الحياة:

1-  المرء يولد.

2-  المرء يبلغ فيكون مكلفًا مسئولاً عن الدين.

3-  تمتد الحياة وتمتلئ بالأعمال ثم الموت.. وأخيرًا البعث والحساب والجزاء.

أعود فأقول: إن المسلم يا أخي مطالب دائمًا بأن يجعل عقله وفكره وقلبه ومشاعره موصولين دائمًا بمصادر الكتاب والسنة ومطالب كذلك بأن يحول بين قلبه وبين ما قد يحجب عنه نور الحقائق الربانية من الاستغراق في شئون الحياة الدنيا دون التدبر الذاكر والعلم المؤدي للإيمان بشهود عظمة الخالق والمخلوقات ودقة نظام الكون.أ هـ.

كانت هذه الخطابات المتبادلة أوائل عام 1971م وبعد وفاة عبدالناصر؛ حيث ظل جلال عبدالعزيز يراسل أخاه حمدي بأمريكا وظل أخوه يراسله مستبينًا طريق الرشد متخذًا من أخيه قدوة يستلهم منه رحيق الإسلام في بلاد الغربة ومفاتنها، وظل جلال يمده بالخطاب تلو الخطاب مثبتًا له، ناصحًا أمينًا، صديقًا رحيمًا؛ حتى رحل بعد أن غرس ما غرسه في أخيه من تربية صالحة في مئات بل آلاف الشباب والأجيال.