مجدي مغيرة :
 
قصة قديمة برؤية جديدة
 
بدأت شهرزادُ حديثَها للملك شهريار كعادتها كل ليلة ، فقالت : بلغني أيها الملكُ السعيدُ ذو العقلِ الرشيدِ والرأيِ الثاقبِ السديد أن ملكاً من ملوك الزمان سألَه ولدُه الذي يعده للمُلْك من بعده .....كيف يا أبي يطيعك الناسُ رغم ما هم فيه من فقر ، ورغم ما يعانون من حرمان ، ورغم ما تنزِلُه بهم من ظلم وهوان ؟!
 
ضحِك الملك وقال له : يا بني إنك إن مسخت من الناس عقولهم ، وسلبت منهم أفهامهم ، وجعلتهم بلا كرامة  ، وأكْبَرْتَ حقيرهم ، وأهنتَ كريمهم  ، وضخَّمتَ شهواتهم وجعلتهم لا يفكرون سوى في ملء بطونهم  ، وسدِّ جوعهم ،وإشباع فروجهم ؛ سَلِسَ لك قيادُهم .
 
نظر الابن إلى أبيه بتعجب وقال : أجْعَلُ الناسَ مسخا ؟! .............كيف ؟!
 
فقال الملك : يا بني  هذا أمر معروف من قديم الزمان ....تمسخ عقول الناس ؛ فيسلِّمون لك كل شيء رغم حاجتهم له ، ويصدقونك في كل شيء رغم كذبك عليهم ، ويمدحون عدلك رغم ظلمك ، ورحمتك رغم قسوتك .
 
الابن : هذا عجيب يا أبي ..........وكيف أصنع ذلك ؟
 
الملك : تصنع مثلما أصنع ....تنتقي كل خسيس وتجعله خبيرا ..... مثقفا ..... مفكرا ..... مختصا ...... رجل أعمال..نخبة ..فنانا.. نجما جماهيريا .. أديبا عالميا .....إلخ إلخ ، وما عليك سوى الإغداق عليهم بالجوائز وحفلات التكريم وشهادات التقدير والمرتبات الكبيرة ، وتحقيق رغباتهم مع توثيق سقطاتهم – وما أكثرها – لاستخدامها وقت اللزوم .
 
الابن : وما دورهم في تحقيق مرادك وتحقيق أحلامك ؟
 
الملك : هؤلاء يا بني هم أداتك في السيطرة على عقول الناس .... وهم أداتك في تضخيم رغباتهم وشهواتهم ...حينما تتضخم الرغبات والشهوات ، وتعجز إمكانات الناس عن تحقيقها – وبالضرورة سيعجزون لقلة الراتب وقلة الدخل وقلة فرص العمل الكريمة – يلجئون للأعمال الحقيرة وللسرقة والرشوة والغش والتدليس لجمع المال .........، وتكون الفهلوة هي سيدة الأخلاق ................... وحينما يفعلون ذلك سينسون – مع الوقت - حريتهم وكرامتهم ، وستقل رغبتهم في التفكير العميق ويهربون من البحث والتقصي لمعرفة الحقائق ،ويظل تفكيرهم  مقتصرا على جمع المال وإشباع الرغبات .
 
الابن : معقوووووول !! ...............معقول يا أبي أن يلغي الناس عقولهم هكذا ؟؟؟!!!
 
الملك : سأريك كيف يلغي الناس عقولهم ويصدقون ما يقوله الخبراء والمثقفون والإعلاميون الذين أختارهم وأنتقيهم لمثل هذه المهمة .
 
ثم نادى الملك - يا مولاي -  على  كبير وزرائه .... ثم أمره بأن يعلن للناس أن خياط الملك سيصنع له حُلةً { بدلة – ثوبا }  لم يُصْنَع مثلُها من قبل .... وستكون حديث الناس في المملكة ، بل وفي العالم كله لجودة قماشِها ،  ودقة صُنْعِها ، وروعة ألوانها ، وسيرتديها الملك ويخرج بها على الناس ليشاهدوه مرتديا حُلته تلك  بعد شهر من الآن .
 
وما إن أعلن كبيرُ الوزراء الخبرَ - يا مولاي -  حتى دارت عجلة الصحف و الفضائيات ، والمجلات المتخصصة ومواقع التواصل الاجتماعي ....ولا حديث لها إلا عن حُلة الملك :
 
 كيف ستكون ؟
 
ومن أي خيوط تم نسج قماشها ؟
 
وما الأدوات التي سيستخدمها الخياط لإعدادها ،
 
ومن هم مساعدوه ؟
 
وكم ساعة عمل كل يوم حتى ينتهوا منها في الموعد المضروب ؟
 
ومن الذي سيتولى عملية الإشراف على ظهور الملك على شعبه بها ؟
 
ومن الذي سيتولى تنظيم حشد الجماهير ونقلهم من بيوتهم ومزارعهم ومصانعهم ومتاجرهم وشوارعهم ؟
 
كيف سيخرجونهم من بيوتهم ؟ وما دور الكشافة والجوالة في عملية التنظيم ؟ ...
 
وما العبارات التي سيكتبونها في اللوحات و اللافتات ؟
 
وفي أي مكان سيضعون الشاشات الضخمة ؛ حتى يستطيع كل الناس رؤية الملك مرتديا الحُلة .
 
وعلى الفضائيات وفي برامج التوك شو دارَ الحديثُ مع ضيوف البرامج حول مختلف جوانب الحدث الضخم :
 
فقد ناقش الخبراء أثر ارتداء الحلة على الشعب ،
 
 وكيف ستكون وسيلة لزيادة الإنتاج ؟
 
ودورُها في زيادة أعداد السياح .
 
أما السياسيون والحكماء فتحدثوا عن تلك الانعطافة التاريخية الكبرى في حياة البلاد ، والنقلة النوعية التي قاد الملكُ البلادَ إليها بارتدائه لتلك الحُلة.
 
أما الاستراتيجيون فقد بينوا ضخامة التحولات الإقليمية والدولية والخريطة السياسية الجديدة لدول العالم جراء ذلك الحدث الفريد.
 
ولم تتأخر الجامعات ودور العلم عن القيام بواجبها ؛ فأقامت الندوات ،وأعدت المحاضرات ، ودبَّجوا البحوث والنظريات لبيان أهمية ذلك الحدث الكوني الضخم .
 
   وارتفعت حناجر الأئمة  على منابر الجمعة بأدلة الكتاب العزيز والسنة الشريفة على تفرد حُلة الملك ووجوب المشاركة في مهرجان الفرجة عليها ،
 
 وعدم جواز الانصراف عن ذلك الحشد قبل التمعن في النظر إليها ،
 
ومن يفعل ذلك سيحل عليه رضوان الله – تعالى - ، ويستحق شفاعة رسوله – صلى الله عليه وسلم - ،
 
 ومن أعرض عنها ، وانصرف منها ؛ فسيحِلُّ عليه غضبُ الله وسخط رسوله .
 
أما الهتيفة ، فقد تدربوا مئات المرات على الشعارات التي سيصيحون بها وترددها خلفهم الجماهيرُ في يوم الزينة.
 
وهكذا – يا مولاي – تهيأ الشعب لاستقبال الحدث ،
 
وأخذ الجميع يستعد لذلك اليوم بتأجيل مواعيد أعمالهم عن هذا اليوم أو تقديمه ،
 
وامتلأت محلات الملابس بالناس لشراء الملابس الجديدة لأنفسهم وأولادهم لارتدائها يوم الزينة ، ونفدت البضائع من المحلات .... حتى البضائع الراكدة منذ سنين ..... ولهج أصحابُ محلات الأحذية والإكسسوارات ومستلزمات الاحتفالات بالدعاء لمليكهم المفدى .
 
حان وقت الخروج ............
 
والطير على الرؤوس........
 
صمتت الأصوات ، والأنظار محدقة ، والأسماع مرهفة ..... والحشود الضخمة تنتظر خروج الملك .
 
خرج الملك عاريا ........ تظلله مظلة ضخمة يحملُها خدمُه .... والمراوح من ريش النعام يحركها عبيده لتجديد الهواء حول الملك وتبريده .......وليس على جسد الملك سوى الكريمات والمراهم التي  دلَّكَ بها جسمه اتقاء لحر الشمس ولفْح الهواء .
 
وما إن ظهر الملك حتى ارتفعت الحناجر بالهتاف بحياته ..... وبالتغني بحُلة الملك .....والجماهير تلهب أكفها بالتصفيق ،  وتردد الهتافات ، وتنظر في ذهول إلى حُلة الملك.
 
أولهم : ما أروعها من حُلة !!! .
 
الثاني : ما أروع ألوانَها !!!!.
 
الثالث : لا يصنع مثلَ هذه إلا خياطٌ عبقري .
 
الرابع : يا هل ترى هذه الحُلة مصنوعة من الصوف الكشميري الفاخر ؟
 
الخامس : بل مصنوعة من الحرير الطبيعي .... أما ترى لمعان ألوانها ؟
 
السادس : لقد حاولت مخابرات العدو اغتيال الخياط قبل أن ينتهي من إعدادها .
 
السابع : إن عين مخابراتنا لهم بالمرصاد .
 
الثامن : إن جلالة الملك أصدر قرارا بألا يخيط الخياطُ لأحد شيئا بعد أن أعدَّ الحُلة حتى لا يكون لها مثيلٌ في الدنيا .
 
التاسع : أرى وجوب قتل الخياط ،  حماية للأمن القومي  للحُلة ، وتكريم أولاده من بعده حتى لا يظن أحدٌ بالملك سوءا.
 
وكان في وسط الحشد – يا مولاي –  طفلٌ يعيش مع أهله في الغابة بعيدا عن الناس ، وقد أتى المدينة ليشاهد الملك في حُلته الجديدة ، ويفرح كما يفرح كل أطفال المدينة .
 
نظر الطفلُ إلى الملك في دهشة ......... وقد أخذه الذهول ، وتمَلَّكه العَجَبُ ،
 
وسأل بصوت مسموع ؟
 
 أين حُلة الملك ؟!!! ..... إني أرى الملكَ عاريا !!!!
 
ما إن نطق الطفل بذلك حتى نظر إليه الناس باستنكار .....
 
كيف يقول ذلك ؟
 
الأول : هذا طفل مندس تحركه أيدٍ خارجية .
 
الثاني : هذا جاسوس .
 
الثالث : هذا الطفل ليس من مدينتنا .... ألا تشموا رائحته النتنة ؟ أخرجوه من المدينة .... إنه لا يستحق الإقامة بيننا.
 
الرابع : اضربوه ..... أطلقوا عليه الرصاص .......اقتلوه .
 
الخامس : لا تقتلوه ....بل اقبضوا عليه وسلموه لأمن الملك حتى يرى فيه رأيه .
 
وتم القبض على الطفل – يا مولاي – وألقوه في سجن مظلم  بعد وجبة من الشتائم والصفعات والركلات ...............
 
 وسمع الملك بما جرى ، وطلب إحضار الطفل أمامه ليسمع منه.
 
تكلم الطفل بصعوبة بالغة أمام الملك ،
 
 وفهم الملك أن هذا الطفل لم يكن يعيش في المدينة ، بل كان يعيش خارجها .... كان يعيش في الغابة  بعيدا عن الناس .
 
الملك : آآآآآه ............هذا هو السبب ...........هذا الطفل لم ينل حظه من التعليم والتثقيف على أيدي خبرائنا وتربويينا ..... إنه مسكين ...........لم يشاهد فضائياتنا ....لم يقرأ صحفنا .
 
خذوووه .....علموووه .......ثقفووووه ..... وبعد أن تهيؤووووه ....اجعلوه ضمن حاشيتنا عسى أن ينفعنا بعقله ونستفيد من قوة ملاحظته .
 
كبير الوزراء :  وإذا لم يستجب للتعليم ... وعجز عن هضم ثقافتنا ولم تؤثر فيه مناهج تربيتنا يا مولاي ؟
 
الملك : سنقدمه حينئذ إلى قضائنا الشامخ  ليحاكمه بتهمة جحود النعمة وإنكار الجميل .
 
وما إن رأى ابنُ الملك ما رأى ، وسمع ما سمع - يا مولاي -  حتى أقبل على أبيه الملك يقبل يده ورأسه ، ثم قال : لا عدمني اللهُ حكمتك وعقلك  وتدبيرك يا مولاي الملك .
 
وصاح ديكُ الفجرِ ........
 
 وأدرك شهرزادَ الصباح ُ ؛ فسكتتْ عن الكلام المباح .
 
https://www.facebook.com/mghyrt
 
https://twitter.com/m9691mo