د. محمود مسعود 
أستاذ الفكر الإسلامي بكلية دار العلوم.
 
 
 ( ج- وكان وعد ربي حقا) 
لما سلك ذو القرنين كل الأسباب قال في نهاية انجاز مهمته (هذا رحمة من ربي فإذا جاء وعد ربي جعله دكاء وكان وعد ربي حقا) ونحن لا ننكر أننا كنا ندفع أنفسنا وشبابنا نحو الأمل القريب، ومنا من كان يعد أيام الأمل على أصابعه ومن من كان يظنها شهورا قليلة ولما تجاوزنا السنتين علمنا جميعا أن قربه يعني فارق الزمن بين رغبة فرد في التغير ورغبة أمة، فالأولى تعد بالساعات والثانية تعد بالعقود. وإرادة التغير في أمتنا بفضل الله تجاوزت تسعة عقود بالتمام هذا العام. ولما كنا في العقد العاشر الذي لاح في فجر التغير وجدنا كل ساعة تمر كأنها دهرا، وما هذا إلا لأننا تيقنا من نور الفجر. 
وهذا المقال ما هو إلا كشف حساب موجز يبين اضاءات الفجر بعيدا عن حماسة رد الفعل المباشر للأحداث، نقدمه لأحبائنا ولشبابنا خاصة كي يثقوا في نور الفجر الذي يرون منه ومضات خافته ويخشون أن يكون فجرا كذابا.
1- الشمس تغيب 
عندما سقطت القاهرة في سبتمبر 1882 لم تسقط بسبب فارق القوة العسكرية إنما بسبب القوة المعنوية الهائلة التي جاء بها الانجليز؛ بنظام مستقر وشعب متجانس وعزيمة تدفعها الكنائس الكاثوليكية والأنجلوكانية والبروتستانتية جميعا، في حين كانت القاهرة تلجم الشيخ الإمبابي شيخ الأزهر عن أن ينطق بأن تعلم (الكيمياء والرياضيات) حلال، وهو على يقين من حله. وكانت درة الشيخ عليش تكبح عقل من يفكر ولو كان مخلصا لدينه مثل الشيخ نفسه رحمه الله.
فلما نفي عرابي لم يكن وراءه شعب أو قوة أو حتى فكرة تنبت بعد رحيله! فالشعب في ذيل الخديوي (وما أحلاها عيشة الفلاح) والقوة في يد الشركسي نوبار باشا وأمثاله وسلطان باشا التركي المترهل بنعيم الصعيد استلم أول دفعه من خيانته لعرابي.
ولم نسمع عن مناوشات بين المستعمر الانجليزي وبين شعب الكنانة ذات أهمية إلا بعد حادثة دنشواي التي أيقظت الدلتا ووسط القاهرة والصعيد وجعلت الأعين تبصر أن المشكلة فينا وليست في الباشا، حيث الباشا أو الخديوي عباس حلمي الثاني يبدل أرض الأوقاف كما يحلو له وكلما قل ماله باع دم الفلاح واستهزأ بعرقه.
2- البحث عن الفجر
سطر الإمام محمد عبده فكرة العودة إلى ضوء الفجر تحت استجداء المستبد أملا أن يكون عادلا!، في حين صرخ بها مصطفي كامل ورفاقه في الأمة والشعب وأسس الحزب. ففجر سعد تلميذ الإمام ورفاقه الفكرة بعد موت الإمام بأربع عشرة سنة في أول ثورة من الشعب ضد التنين الغربي والباشا معا، وهنا نثمن أول لقطة في عودة الحياة لشعب عاش مسخرا عند الباشا منذ مذبحة القلعة.
فقد أصبح من يحكمنا بعد تلك المذبحة (باشا) يعظمه الشعب، وأضحى محمد على عند الغربيين وإعلامهم باني مصر الحديثة لا يجوز نقده! وكأن شق الترع والمصارف أهدى سبيلا من بناء الإنسان؛ الذي جعله الباشا سخرة يجرى وراء حماره. لست في مرحلة تقيم لمحمد علي إنما في مرحلة بيان مخاطرها على هدم الإنسان ولكي يستمر الهدم لابد أن يظل هذا الإنسان جائعا حتى يلهث وراء الدرهم والدينار ويكون لهما عبدا ومن يصيبه الغنى منهم يمسك الكرباج للأهل السخرة.
وفي 1923 ظهرت لنا ثمرة ثورة 19 وظل يكافح المخلصون من الوفديين طرفين؛ خونة معهم في ذات الحزب، وعدوا يتلاعب بحقوقهم بنظام وترتيب، فتقاتل الوفديون والسعديون وظهر المنافقون يبنون مصر الجديدة بلون الليبرالية الغربية فظهر لطفي السيد زعيم المنافقين ليكون أستاذا للجيل! وتعرت هدى شعرواي لتكون تنويرا غربيا للمغفلين من شعبنا، وظهر العلم الإفرنجي بدلا عن تأسيس الذات، واشترينا طوق عدونا بدلا من تطوير محرابنا. وجاء نصاري لبنان يفتحون الأهرام والمقطم وظهرت عبقرية التلاعب بالدين باسم الوطن والتلاعب بالوطن باسم الدين، فظهرت كتابات سلامة موسى وشبلي شميل وما أدراك ما هم! ليكون المطالب بالوطنية كارها لتراث الوطن ذاته! وصولا إلى "عصفور من الشرق" في أربعينيات القرن العشرين و"مستقبل الثقافة في مصر" لنصل إلى كتاب "الإسلام وأصول الحكم" لينهي حتى التفكير في مسألة إسلامية الحكم، والشعب المصري حينها كان كل حلمه كسرة جافة وكسوة مهلهلة.
ثم استيقظ الشعب على أغاني كمال أتاتورك في 1924قتلتُ الخليفة وأنهيتُ الخلافة، فماذا يفعل الفلاح المصري فلا هو مصري ولا هو غربي ولا هو طوراني تركي، فشاء الله أن يتغير الأمر كله بسقوط الوهم الذي كانت تستره الخلافة والتي سقطت فعليا منذ 1841م. 
3- البحث عن تحقيق الفجر
لم يكن حسن البنا نبيا مرسلا ، ولا عبقريا خارقا ، ولا ساسيا منقطع النظير، بل كان مجرد شاب ورث تركة وقرر أن يكون مسؤولا عن إحياء فهم المسلمين لدينهم الذي لا يرتضى لهم الذلة والمهانة، وأدرك بفطرته وبما حصله من دار أبيه إلى دار العلوم أن المسؤولية لا يقوم بها فرد، فهو في الدين لن يبذ عبده وفي السياسة لن يبذ سعدا وفي الخطابة لن يبذ مصطفي كامل لذا كان حلمه هو تحقيق شعب حي وكفى.
وتكمن قيمة المجدد في معرفته الداء ووصف الدواء، فالداء يكمن في مواطن مريض ضعيف منهك وسجان يزيده إيلاما وأمة ركعت في كل شئ وسأكتفي بجملة لحسن البنا لنعرف من هو حسن البنا؟ يقول رحمه: "سنخرج للشعب فتاوى ابن حزم المخبوءة في بطون الكتب من ان العدو المشرك نجس كله، لا يجوز مسه ولا التعامل معه: (إنما المشركون نجس)!! هنا ظهرت العبقرية لو أطلقنا عليه ذلك الوصف وهنا يتجدد ميراث النبوة بفهم مبدع وهنا يعود الشعب يتعرف الى طريقه الصحيح (طريق الجهاد). وقد كان أسهل الجهاد جهاد الانجليز واصعبه جهاد المنافقين من عملاء الانجليز الذين يعيشون بيننا وينطقون بألسنتنا!   
كانت تلك أول اشراقات الفجر حيث فتح حسن البنا المجال أمام الجميع ليربي نفسه ويدعو غيره، وصبغ المجتمع بمفاهيم ماتت وشخصيات اخفيت معالمها، فأظهر سننا للنبي صلى الله عليه وسلم كانت قد اندثرت وكشف عن بدع أضحت سننا وعن أصول غدت فروعا وفروع قامت مقام الأصول، ولكن معظم من وصلته هذه التنبيهات كان أكبر حلمه أن يزور القناة المحتلة ويلبس البرنيطة المبتلة، فسكت البنا سكوت الفقهاء ولما تقدم الصهاينة المغتصبون اضطر الى أن يخرج بضعة ألاف إلى النضال فُكشف أمره: وهو تحرير الإنسان (باب الأبواب لتحرير الأوطان) فدخل السجن وأغلقت الأبواب التي فتحها وصار عدوا للوطن حتى قتل!
ومع ذلك فقد بذر البنا بذورا لا يمكن اجتثاثها، فكلما خلعوا ثلة نبتت أخري وكلما قلعوا شجرا عاد فأنبت من مراكش إلى الهند بل ذهب يبذر في قلب ليون عاصمة الصليبيين وفي واشنطن عاصمة الاستعماريين الجدد.
4- الفجر يقترب 
فلما قامت الثورة كانت البذرة قد انتشرت في أركان البلاد؛ عند أتباع البنا ومن يخالفهم من الإسلامين سواء بسواء، فالكل يحمل البذرة التي أرادها الإسلام ونسيت منذ أزمنة مديدة، فالجميع عاد له الأمل -بعد أن رأي هدير الجماهير – عودة الإسلام وكل هؤلاء أصبحوا على درب البنا وإن حاربوا الإخوان ونسبوا لهم كل نقيصة من ضعف في الدين هنا وتشدد هناك.
فلما أراد التيار الإسلامي الواعي أن يهادن التنين الغربي جعلهم الغرب ألعوبة! وعندما خاف المصلحون من وقوع مصر في أسر الفتنة أعانوا الإخوان ليفوزوا في الاستحقاقات التشريعية الخمسة المتتالية بعد الثورة، لذا تلاعب بهم التنين الغربي ورجاله وكنا نقول للإخوان ومن معهم وقعتم في حجر التنين، وضاع المشروع رغم أننا بذلنا ما نستطيع لعل التنين يكون قد بلع شئيا من الطعم، لكنه كان في أخبث لحظاته ولولا عناية الله لبقي الإخوان في السلطة وانتظرنا الفجر أربعين عاما جديدا.
لكن الله تعالى موهن كيد الكافرين، لذا استدرج التنين بذات الطريقة التي استدرج التنين بها التيار الإسلامي الواعي، فالتنين ظهر كأخطبوط طري ليصعد الإسلاميون حتى يلتف عليهم فلا مخرج، إلا أن صاحب الوعد الحق استدرج التنين للانقلاب على شعب رأي وحلم ثم على شباب شربت قلوبهم العزة والرجاء في النصر، بل الفتح المبين. والتنين تخيل أن الأمر مجرد مسألة وقت يقتل فيها بضعة آلاف ويسجن مثلهم ويشترى بماله من يريد فتستقيم له الأمور، فلما مر عامان لم يتمكن التنين ويده الباطشة وأمواله الطائلة أن تعطي شرعية للسيسي أو حفتر انبلج نور الفجر من أندونيسا إلى المغرب ومن مالي إلى السويد وظهر أن الفجر لن يعود ظلاما حتى لو ظل الخيط الأسود مدة يكافح الخيط الأبيض لكنه آت ولن تدور الشمس إلى الخلف.
فمن سيُسكت كل هذا الحضور المعنوي في قلوب شباب تربوا تربية متينة على حلم واحد وهو عودة الإسلام ظاهرا منتصرا وذلك بين لدى كل من ينظر إلى هذا الجيل من أضعف الشباب تدينا إلى أقصاهم تطرفا جميعهم يريد الإسلام فحسب. لذا عاد الفجر وأصبح واقعا يدرس العالم الغربي(التنين) كيف يتعامل معه، بحيث لا يحدث للغرب نهاية مفجعة. 
ولنقترب من الواقع أكثر فنقول: لو انبلج الفجر خلال عام أو أكثر سيكون كدقيقة واحدة بالنسبة للتنين الذي سيطر على عالمنا الإسلامي عامة وشعبنا المصري خاصة أكثر من قرنين منفردا، لكن سيكون كل يوم كسنة بالنسبة لنا وللشباب المتعطش للنصر، وإن لم يغير طريقنا نحو السير إلى الفجر ولو تأخر عنا حينا.