بقلم :  د. إبراهيم العدوي

بسم الله الرحمن الرحيم

{هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ * وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ *

إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ  آمَنُوا

وَيَتَّخِذَ  مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ  لا  يُحِبُّ  الظَّالِمِينَ} [آل عمران: 138 - 140].

تتناول هذه الآيات الكريمة تفاصيل غزوة أحد التي جرت وقائعها في شهر شوال من العام الثالث للهجرة، وتوضيح تفاصيل المعركة، وما تقرر في تلك الغزوة من مبادئ مهمة في بناء الدولة الإسلامية، وفي مقدمتها مبدأ الشورى، ومبدأ النظام.

 

بدأت غزوة أحد حين خرجت قريش وعلى رأسها أبو سفيان تريد الهجوم على المدينة، والثأر لما نالها من هزيمة فادحة في غزوة بدر، وبلغ من حنق قريش وطغيانها أنها أوقفت على تكاليف غزوة أحد جميع دخل قافلة أبي سفيان التي فر بها قبل معركة بدر؛ حيث ظلت تلك القافلة واقفة عند دار الندوة بمكة، انتظارًا لما يُسفر عنه رأي قادة قريش، وقد اتفق أولئك القادة على أن تباع العير وما تحمله، ويخصص الربح كله لتجهيز جيش لقتال المسلمين في المدينة، والانتقام لما نالته قريش من هزيمة بدر.

 

وقد أشار ابن هشام في "سيرة النبي" إلى ذلك قائلا:

"إن نفرًا من رجال قريش ممن أصيب آباؤهم وإخوانهم يوم بدر، كلموا أبا سفيان بن حرب ومن كانت له في تلك العير من قريش: أن محمد قد وتركم، وقتل خياركم، فأعينونا بهذا المال على حربه؛ فلعلنا ندرك منه ثأرنا بما أصاب منا، ففعلوا".

وفيهم أنزل الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} [الأنفال: 36].

 

وأخذ الرسول الكريم يستعد في المدينة حين بلغه زحف قوات قريش، حيث بلغت مشارف المدينة نفسها في اليوم الأول من شهر شوال من العام الثالث للهجرة، واعتمد الرسول في تعبئة قواته ليس على الجانب المادي فحسب؛ بل على الإيمان والحق وقوة "الشورى"، باعتبار أن مبدأ الشورى خير سبيل يؤدي إلى توحيد قلوب المؤمنين المخلصين، ويجعل كل نفس تحس بأنها جزء لا يتجزأ مع غيرها، فضلاً عن اكتشاف الآراء ومعرفة رأي أصحابها.

 

ووقف الرسول الكريم بعد الصلاة يستشير المسلمين قبل المعركة، وكان محور الشورى يدور على أمرين: أيخرج النبي بجيش المسلمين للقتال، أم يبقي في المدينة ويقاتل العدو؟ وذلك استطلاعًا للرأي في أي الأمرين أنكى للعدو وأقرب للنصر، وروي أن الرسول الكريم قال: ((امكثوا، واجعلوا الذراري في الآطام، فإن دخل علينا القوم في الأزقة قاتلناهم، ورُموا من فوق البيوت)).

 

وروي ابن هشام في "سيرة النبي" تفاصيل مجلس الشورى موضوعًا: أن الرسول الكريم قال لأصحابه: ((فإن رأيتم أن تقيموا بالمدينة وتدعوهم حيث نزلوا؛ فإن أقاموا أقاموا بشر مقام، وإن هم دخلوا علينا قاتلناهم فيها)).

 

وأضاف ابن هشام قائلاً: "وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكره الخروج، ولكن نفرًا من الصحابة فاتهم "غزوة بدر" قالوا: يا رسول الله، اخرج بنا إلى أعدائنا، لا يرون أنَّا جبنَّا عنهم وضعفنا"؛ فقال عبدالله بن أبي ابن سلول: "يا رسول الله، أقم بالمدينة، لا تخرج إليهم؛ فوالله ما خرجنا منها إلى عدو قط إلا أصاب منا، ولا دخلها علينا إلا أصبنا منه؛ فدعهم يا رسول الله، فإن أقاموا بشر محبس، وإن دخلوا قاتلهم الرجال في وجههم، ورماهم النساء والصبيان بالحجارة من فوقهم، وإن رجعوا رجعوا خائبين كما جاؤوا".

 

وانتهى مجلس الشورى بتغلب الرأي القائل بالخروج من المدينة وقتال العدو، حيث ذكر ابن هشام: "فلم يزل الناس برسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذين كان من أمرهم حب لقاء القوم، حتى دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيته، فلبس لأمته، وذلك يوم الجمعة حين فرغ من الصلاة"، وأظهر الرسول الكريم احترامه لمبدأ الشورى، وما استقر عليهم الرأي، وإن كان هذا الرأي يخالف ما رآه هو نفسه، ذلك أن النفر الذي رأى الخروج من المدينة ندموا، وقالوا: "استكرهنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يكن لنا ذلك، فلما خرج عليهم رسول الله - صلى الله عليهم وسلم - قالوا: "يا رسول الله، استكرهناك، ولم يكن لنا ذلك، فإن شئت فاقعد، صلى الله عليك"؛ فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((ما ينبغي لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يقاتل))؛ فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ألف من أصحابه.

 

وتناولت الآيات الكريمة اعتماد الرسول الكريم في غزوة أحد على مبدأ آخر مهم، وهو مبدأ النظام، وإقراره إلى جانب إقرار مبدأ الشورى، وهما أمران يمثلان العمود الفقري للدولة الإسلامية الوليدة، والركيزة الأساسية لتنظيم حياتها على مر العصور والأزمان، وأشار القرآن الكريم إلى تنظيم الرسول الكريم للمسلمين استعدادًا للمعركة؛ فقال تعالى: {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [آل عمران:121].

وتناولت الآيات الكريمة أيضًا ما حدث من جانب المنافقين، وعلى رأسهم عبدالله بن أبي، حين خرج على الشورى ولم يتابع المسيرة مع المسلمين، ورجع مغاضبًا إلى المدينة، محتجًّا بأن الرسول لم يستمع إلى رأيه، وأنه صلى الله عليه وسلم نزل على مجلس الشورى، وكان هذا العمل من جانب رأس المنافقين عبدالله بن أبي سببًا في اضطراب جماعة من المسلمين؛ حيث همَّت طائفتان منهم بالرجوع بدورهم إلى المدينة، وفيهم يقول تعالى: {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [آل عمران: 122].

 

وقد فرحت هاتان الطائفتان حين برأتهما تلك الآية الكريمة من رذيلة النفاق، وأوضحت أنهم كانوا مترددين، وإن الله - سبحانه وتعالى - ولي المؤمنين، ومسدد خطاهم على الطريق المستقيم.

وذكرت الآيات أيضًا تنظيم الرسول الكريم لقواته عند المعركة، حين جعل جبل أحد وراء قواته وهو يواجه العدو، وأنه جعل الرماة وعددهم خمسون راميًا وراء ظهر الجيش على جبل أحد، وعليهم عبدالله بن جبير، وأمره مشددًا القول ومكررًا أيضًا ومحذرًا قائلاً: ((انضح الخيل – أي: ادفعهم - عنا بالنبل؛ لا يأتون من خلفنا، إن كانت لنا أو علينا فاثبت مكانك؛ لا نؤتين من قبلك)).

 

وتصف الآيات الكريمة وصفًا دقيقًا للقتال الذي دار بين المسلمين وجيش قريش، وما حدث من مخالفة الرماة لأوامر الرسول الكريم؛ حيث نزلوا لجمع الغنائم، وما صاحب ذلك من هزيمة المسلمين، ووقوع الأذى بالرسول الكريم نفسه، ثم بيان فضل الله على المسلمين، حيث استعادوا تنظيم صفوفهم وطوقوا قوات قريش التي اخترقت مواقع الرماة، وهو الأمر الذي حمل قريشًا على أن تعود أدراجها دون أن تحقق أهدافها في تلك الغزوة، قال تعالى: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ * إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [آل عمران: 152 - 153].

 

وتناول المؤرخون "غزوة أحد" بالتعليق، موضحين أهميتها ونتائجها بالنسبة للدولة الإسلامية الفتية؛ فقال ابن هشام في "سيرة النبي":

"يوم أحد يوم بلاء ومصيبة وتمحيص، واختبر الله به المؤمنين ومحص به المنافقين، ممن كان يظهر الإيمان بلسانه، وهو مستخف بالكفر في قلبه، ويومًا أكرم الله فيه من أراد كرامته بالشهادة من أهل ولايته".

 

وتختتم الآيات الكريمة بيان مكانة "غزوة أحد" في التطور والهزيمة بدروس جديرة بأن تحتذى؛ فقال تعالى مخاطبا المسلمين: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} [آل عمران: 139 - 141].

ومع هذه الآيات الكريمة للمسلمين تأكيد للرسول الكريم على إقرار مبدأ الشورى، وذلك في قوله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران: 159].