شعبان عبدالرحمن*

عندما شرعت في الكتابة هنا، احترت من أين أبدأ؟ فسِجِل الرجل الجدير بالكتابة والتحليل غير مرصود ولا مسجل، لكنه مشهود ومعروف بل ومعترف به من الكثيرين حول العالم الإسلامي.. فالمستشار الداعية عبدالله العقيل (أبو مصطفى) واحد من جيل ذهبي كرس سنوات عمره لتأسيس النهضة، وإرساء أسس الصحوة الإسلامية في العصر الحديث، ولم يكترث بتسجيل خواطر أو دبج مقالات، وإنما كانت وجهته إرضاء الواحد الديان - ولا نزكي على الله أحداً - فهل من ينهمك في بناء أعظم صرح يكون لديه وقت للحديث عن نفسه، وهل من نذر وقته وجهده وزهرة شبابه وعصارة عمره لله يهتم بالوقوف تحت الأضواء. 

فالمستشار العقيل (المولود في 1347هـ/ 1928م في مدينة الزبير) واحد من جيل آثر العمل في صمت وسط ظروف بالغة الصعوبة، في عصور كانت تعد فيها الأنفاس على الدعاة إلى الله وتحصى خطواتهم، وترصد تحركاتهم وكلماتهم، لكنه جيل استطاع إكمال مهمته بنجاح باهر وبفضل الله، وواقع الحركة الإسلامية اليوم ينطق بذلك.  هكذا خبرت المستشار عبدالله العقيل  منذ عرفت فضيلته قبل عشر سنوات، واقتربت منه كثيراً وعن قرب قبل سبع سنوات، لم يكن يهتم قط بالحديث أو بالكتابة عن نفسه إلا في حدود شهاداته ومعايشاته لمن كتب عنهم في سلسلة «أعلام الدعوة والحركة الإسلامية في العصر الحديث»، التي نشرها على حلقات في مجلة «المجتمع»، ثم طبعت في سلسلة من المجلدات.. أقول: لم يكن يتحدث عن نفسه إلا في تلك السلسلة حتى يوثق شهاداته عمن يكتب عنهم، ويدلل على كتاباته بشأنهم فهو - متعه الله بالصحة والعافية - يتحرى ما يكتب ويدقق في كل صورة يحددها للنشر؛ لأنها في عرفه شهادة يسأل عنها أمام الله سبحانه وتعالى. 

وكم طلبت إليه أكثر من مرة أن يكتب شيئاً عن مسيرته مع الدعوة إلى الله؛ وفاء بحق القراء وأبناء الدعوة، بل والمسلمين عليه أن يعرفوه ويعرفوا شيئاً عن تاريخه لكنه عزف. 
ولأبي مصطفى في قلبي مكانة وحب كبير واحترام جم - مثل الكثيرين غيري - لأنه بكل بساطة «إنسان»، وعندما تكتمل عناصر الإنسانية في صاحب الرسالة والدعوة، فإن فعله يملأ الآفاق وفعاليته تسري في كيان المرء دون أن يدري.. فكيف تصف رجلاً تعدى الثمانين من عمره وهو يبادرك بين الحين والآخر بالسؤال عنك وتفقّد أحوالك، ثم يتحدث معك عن آخر ما كتبت مشجعاً ومؤازراً وناصحاً، ولا تملك عندما تلتقيه إلا أن تزداد له حباً واحتراماً، فقد حباه الله بعبقرية تأليف القلوب، ولا نزكي على الله أحداً. 

يعتَبِر مجلة «المجتمع» واحداً من أبنائه، فلم يتوانَ عن دعمها بكل ما أوتي من علم وقلم ومال. 

هو واحد من مدرسة ربانية نذرت نفسها لله سبحانه وتعالى ولدعوته المباركة، وخلع أبناؤها أنفسهم من متع الدنيا التي انهمرت على الخليج، ونذروا جل وقتهم وجهدهم لله سبحانه وتعالى. 

هو من المدرسة التي ضمت خيرة الرجال التي عرفتهم الدعوة الإسلامية في الخليج العربي والعالم الإسلامي، وفي مقدمتهم الشيخ عبدالله علي المطوع (أبو بدر)، رئيس جمعية الإصلاح ورئيس مجلس إدارة مجلة «المجتمع» الراحل يرحمه الله وآخرون، منهم من قضى ومنهم من ينتظر، وما بدلوا تبديلاً. 

تلك المدرسة التي وضعت غراس الدعوة المباركة في المنطقة، وقادت عملاً خيرياً واسعاً وعظيماً امتد خيره من الكويت والخليج إلى بقاع الدنيا لإغاثة الملهوفين والمشردين ورعاية الأيتام والأرامل والمعوزين في مشاريع حضارية صحية وتعليمية واجتماعية واقتصادية وإنسانية ستظل شاهد حق على نبل رسالتهم.. وفي الوقت ذاته جعلوا بيوتهم قبلة لكل طالب عون ولكل طالب حاجة ولكل داعية إلى الله يأتي من أقطار الأرض، وإن بيت أبي مصطفى في الكويت خلال فترة الثمانينيات مازال يشهد له جميع من حضر تلك الفترة، بأنه كان جامعة أسبوعية تستضيف في ديوانيته علماء ودعاة ومصلحين من جميع أنحاء العالم الإسلامي، وكانت تلك الديوانية بمثابة مؤتمر ينبض بكل معاني الأخوة ووشائجها، ويفيض بالعلم على الحاضرين الذين يتوقون إلى حضوره كل أسبوع، وكان فارس ذلك المؤتمر الأسبوعي هو صاحب البيت أبو مصطفى. 

لست في حاجة لكي أكتب عن محطات في تاريخ حياته، فقد كفاني الكثيرون غيري ممن هم أفضل مني، لكني أتوقف عند ملامح سريعة من حياته، والتي ترسم معالم شخصيته وتكشف عن هدفه في الحياة، وتلفت الانتباه إلى رسالته التي اختطها لنفسه، فمنذ بواكير شبابه كتب مقالاً في مجلة «الإخوان المسلمون» عام 1946م تحت عنوان: «الإخوان المسلمون» قال فيه:
«اسم تهفو إليه القلوب، وتتطلع إليه الأفئدة، جماعة مؤمنة طاهرة منزهة، ائتلفت على حب الله، وتعاهدت على إعلاء كلمته، والموت في سبيله.. عرفتها فعرفت الإسلام على حقيقته، واتصلت بها، ففهمت غايتها ومقصدها، فإذا هي أنبل غاية، وأشرف مقصداً مما عداها.. قوة هائلة عظيمة، تعتمد في جهادها على الله، وتؤمن بنصره، وتسير على هدي كتابه، وسُنة رسوله.. يدير دفتها ربان ماهر حاذق، أخلص عمله لله، ورهن حياته للجهاد في سبيله، هو المرشد العام للإخوان المسلمين، وفقها الله إلى العمل الصالح، وأخذ بأيدي القائمين بها، وأيدهم بنصره، والله قوي عزيز». يقول عن نظرته للحياة: ليست راحة بل مشقة وتعب وكدر..

فهي كما قال الشاعر: طبعت على كدر وأنت تريدها  ومكلف الأيام ضد طباعها

ومنذ مقتبل عمره حدد أمنيته في الحياة قائلاً: أمنيتي التي سألت الله تحقيقها وأنا في مقتبل العمر ووفقني الله إليها وله الحمد والمنة أن أدعو إلى الله وأن أنشر الخير وأسعى لإسعاد الناس.. كل الناس قدر طاقتي وحسب إمكاناتي، فليس ثمة سعادة أعظم من إدخال السرور على قلب مسلم وتفريج كربته، والسعي في حاجته.. «والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه».

لو لم أكن في هذا العمل لما كنت إلا في عمل مماثل له، فأنا والحمد لله عملت في حقل الدعوة الإسلامية منذ تخرجي - وما زلت - وأشكر المولى على ذلك، ففيه راحة النفس وطمأنينة البال وثواب الله ومنفعة الناس { وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ >33<}(فصلت).

ويقول عنه صديقه الشيخ معوض عوض إبراهيم (مواليد 1912م): «لقد أعجبني من الأستاذ العقيل حبه العميق لدينه، ولإخوانه، ولأعلام الدعوة الإسلامية في العالم الإسلامي، وبخاصة تلك الدعوة التي شرح الله لها صدره بواسطة فقيد الإسلام الشيخ حسن البنا.. كان أهم ما عرفناه عن المستشار العقيل، أنه كان يبدأ، وينتهي، ويقبل، ويدبر، ويمسي، ويصبح، وليس في قلبه إلا الأخوة في الله، ورفع العراقيل من طريق الدعاة إلى الله عز وجل، وكم من الناس من شغلتهم مصالحهم الخاصة وشؤونهم الذاتية عن الوفاء للدين، لكن المستشار الفاضل كان كما قلت يصبح ويمسي، وهو مقبل على كل ما يشد العُرى، ويوشج الصلات من حول الإسلام.. دين الله الذي يهدي وكتابه دائماً للتي هي أقوم.

وقال عنه العلامة الشيخ القرضاوي في كتابه «ابن القرية والكتاب»: كنت وأنا طالب في المرحلة الجامعية على صلة وثيقة بعدد من طلاب البعوث الذين جاؤوا من أوطانهم يدرسون في الأزهر الشريف.

وأبرزهم الطالب النجيب الذي جاء من مدينة «الزبير» في العراق، وكان شعلة متقدة من النشاط والحركة والتقرب من العلماء والدعاة من مصر، أو القادمين عليها، وهو الأخ النابه عبدالله العقيـل، الطالب في كـلية الشريعة، والذي سكن مع الأخ أحمد العسال فتـرة من الزمن، وكان له نشاطه المتميز في قسم الطلاب، وقسم الاتصال بالعالم الإسلامي. وقد أحسن مركز «الإعلام العربي» في مصر ورئيسه الأخ الأستاذ صلاح عبدالمقصود أن أسس لموسم متواصل " رموز في دائرة الضوء " يُعنى بتكريم قادة الأمة ودعاتها، والذين حرص الإعلام الرسمي على التعتيم عليهم وعلى مسيرتهم المثمرة وجهادهم المشرف فجزي الله مركز الإعلام العربي خير الجزاء . 

___________

* كاتب مصري- مدير تحرير مجلة المجتمع الكويتية
[email protected]