لم تعد المأساة المصرية حبيسة الزنازين ولا قاعات المحاكم الاستثنائية، بل باتت تلاحق المعارضين حتى في عواصم العالم الحر. ما جرى في لندن من اعتداء وتهديد طال الناشط السياسي المصري أنس حبيب، لم يكن حادثاً فردياً ولا شجاراً عابراً، بل مشهداً كاشفاً لطبيعة نظام يحكم مصر بالقوة، ويُصدّر أدوات القمع إلى الخارج عندما يعجز عن إسكات الأصوات الحرة.
هذه الواقعة التي انتهت باعتقال أحمد عبد القادر (ميدو)، أحد أبرز المحسوبين على نظام قائد الانقلاب عبدالفتاح السيسي في الخارج، أعادت طرح سؤال جوهري: هل ما زالت مصر دولة لها سيادة على أراضيها ومؤسسات تخدم شعبها، أم تحولت إلى سلطة احتلال سياسي تتعامل مع المصريين في كل مكان كخصوم دائمين يجب مطاردتهم وسحقهم؟
لندن تفضح النظام.. حين يصطدم القمع بدولة القانون
أمام السفارة المصرية في لندن، وخلال احتجاجات سياسية سلمية، وقعت مواجهة انتهت بتدخل الشرطة البريطانية واعتقال أحمد عبد القادر، المعروف إعلامياً بـ"ميدو"، وهو أحد الوجوه البارزة في الدفاع عن نظام عبد الفتاح السيسي في الخارج. الاعتقال جاء على خلفية تهديدات ومحاولة اعتداء طالت الناشط أنس حبيب، وهو ما تعاملت معه السلطات البريطانية باعتباره تهديداً للأمن العام، لا مجرد خلاف سياسي.
هنا تتبدى المفارقة الفادحة التي تفضح وجه النظام القبيح: ما يُمارَس يومياً في مصر بلا حساب ولا عقاب، يتحول في دولة ديمقراطية إلى جريمة تستوجب التوقيف والتحقيق. النظام الذي اعتاد الإفلات من العقاب داخلياً، واعتاد أن يسحق المعارضين ويهددهم ويعتدي عليهم دون أي مساءلة، وجد نفسه فجأة أمام قانون لا يخضع للأوامر الهاتفية من أجهزة المخابرات، ولا يُدار بتعليمات أمنية من ضباط يعتبرون أنفسهم فوق القانون.
جريمة أنس حبيب الوحيدة أنه عبّر عن رأيه، وانتقد سياسات النظام المصري، ورفض الصمت الذي يُفرض على ملايين المصريين. الاعتداء عليه يكشف بوضوح أن النظام لا يرى في المعارضة رأياً سياسياً مشروعاً، بل خطراً وجودياً يجب سحقه، سواء داخل السجون أو خارج الحدود. وهنا تتحول الدولة من كيان سياسي يحتكم للدستور والقانون، إلى سلطة مطاردة تعتبر كل صوت حر تهديداً يجب القضاء عليه بأي ثمن.
اعتقال "ميدو".. إحراج دولي يفضح صادرات القمع المصرية
اعتقال أحد أبرز المدافعين عن النظام في الخارج لم يكن حدثاً عادياً، بل شكّل إحراجاً سياسياً بالغاً للسلطة في القاهرة، التي سارعت إلى تصوير الواقعة باعتبارها "استهدافاً لمواطن مصري"، في محاولة يائسة لقلب الحقائق وتصوير الجاني ضحية. لكن الواقع الذي لا يمكن تزييفه أن ما جرى كشف حدود القوة المصرية خارج البلاد، وأظهر أن تصدير القمع لا ينجح دائماً، خصوصاً حين يصطدم بقوانين تحمي حرية التعبير، وتُجرّم التهديد والعنف، وتتعامل مع المواطنين كمتساوين أمام القانون.
النظام المصري الذي يفخر بـ"قوته الأمنية" وقدرته على إسكات أي صوت معارض داخل البلاد، وجد نفسه عاجزاً ومحرَجاً أمام نظام قانوني لا يعترف بالاستثناءات، ولا يقبل أن يتحول الفضاء العام إلى ساحة مطاردة وترهيب. الرسالة التي أرسلتها السلطات البريطانية واضحة: لا مكان للبلطجة السياسية هنا، سواء كان مرتكبها محسوباً على نظام أو لا. هذا الدرس القاسي يجب أن يذكّر النظام المصري بأن العالم الحر لن يقبل أن تتحول عواصمه إلى امتداد لسجون القاهرة وزنازين الأجهزة الأمنية.
علاء عبد الفتاح.. الإفراج كـ"منحة" لا كحق وفضيحة النظام المستمرة
في هذا المناخ المتوتر، جاء الإفراج عن الناشط السياسي علاء عبد الفتاح. ورغم القيمة الإنسانية الكبيرة لخروجه من السجن بعد سنوات من الاعتقال الظالم، إلا أن قراءة الحدث بمعزل عن السياق السياسي تُعد سذاجة مفرطة أو تجاهلاً متعمداً للحقيقة. علاء لم يُفرَج عنه لأن النظام راجع نفسه، أو اعترف بظلمه، أو أقر بأن اعتقاله كان خطأ، بل لأن استمرار احتجازه أصبح عبئاً دولياً متزايد الكلفة، وفضيحة مستمرة تلاحق النظام في كل محفل دولي.
هنا تتجلى المأساة المصرية بأوضح صورها: الحرية لا تُنتزع بالقانون، بل تُدار كأداة مساومة وورقة ضغط. هذا النموذج يذكّر بما تفعله سلطات الاحتلال الإسرائيلي حين تُفرج عن الأسرى الفلسطينيين تحت الضغط، لا إقراراً بحقهم، بل خشية من تبعات الجريمة المستمرة والضغوط الدولية المتزايدة. النظام المصري تعامل مع علاء عبد الفتاح كرهينة، وتعامل مع الإفراج عنه كـ"إحسان" يستحق الشكر، في تأكيد فاضح على أن النظام يعتبر نفسه فوق القانون، وأن حرية المواطنين بيده يمنحها أو يسحبها حسب حساباته السياسية.
منذ 2013، لم تُبنَ دولة في مصر، بل ترسخت منظومة أمنية مغلقة، تُقصي السياسة، وتُفرغ المؤسسات، وتحوّل الخلاف إلى جريمة. الصحفيون في السجون، الأحزاب مُصادَرة، البرلمان صوري، والإعلام صوت واحد يردد ما تريده الأجهزة الأمنية. وحين يصبح الإفراج عن معتقل سياسي "منحة" لا "حقاً"، وحين يُطارد المعارضون حتى في لندن، فهذا دليل قاطع على أن الوطن نفسه بات رهينة لسلطة لا تعرف معنى الدولة.
السؤال الذي يفرض نفسه بإلحاح: إذا كان المعارض المصري لا يأمن على نفسه حتى خارج بلده، وإذا كانت الحرية لا تأتي إلا بفضيحة دولية أو ضغط سياسي خارجي، وإذا استمر احتجاز آلاف المعتقلين بلا محاكمة عادلة، فهل ما نراه دولة ذات سيادة، أم نظام احتلال داخلي يخشى شعبه ويطارده في كل مكان؟ ومتى تتحول الحرية في مصر من ورقة تفاوض ومساومة، إلى حق دستوري وإنساني لا يقبل المساومة ولا المنّة؟

