في مفارقة اقتصادية فجة، كشفت بيانات حكومية حديثة عن بدء الشركة المصرية القابضة للغازات الطبيعية (إيجاس) ضخ كميات من الغاز الطبيعي لمصانع الإسالة تمهيداً لتصديرها إلى أوروبا قبل نهاية 2025، في وقت تعاني فيه الدولة من عجز هيكلي في الطاقة أجبرها على رصد ميزانيات مليارية لاستيراد الغاز المسال والمازوت لتشغيل محطاتها.
هذا التقرير يفكك خيوط "صفقة الشحنتين" ويكشف كيف تحاول الحكومة تجميل الصورة بينما الأرقام على الأرض تفضح واقعاً مغايراً.
التصدير "الصوري": أموال لا تدخل الخزينة
بينما تروج الحكومة لعودة مصر إلى خارطة التصدير عبر شحنتين بحمولة إجمالية 300 ألف متر مكعب (تقدر قيمتهما بـ 80-90 مليون دولار)، فإن الحقيقة التي كشفها المصدر الحكومي لـ"العربية Business" هي أن هذه العوائد لن تدخل ميزانية الدولة.
الهدف الحقيقي من التصدير ليس جلب العملة الصعبة للاقتصاد، بل هو سداد مديونيات متراكمة: العائدات ستذهب مباشرة لحسابات الشركاء الأجانب (شركات الغاز العاملة في مصر) كجزء من مستحقاتهم المتأخرة.
بمعنى أدق، الحكومة تسمح للشركاء بتصدير غاز مستخرج من الأراضي المصرية لتحصيل ديونهم، في وقت تشتري فيه الدولة الغاز من الخارج بأسعار السوق العالمية لسد حاجة المواطن.
معادلة "الاستنزاف": فجوة الإنتاج والاستهلاك
تظهر الأرقام الرسمية حجم الكارثة التي تحاول التصريحات الوردية تغطيتها:
• الاستهلاك المحلي: 6 مليارات قدم مكعبة يومياً (رغم إجراءات "ترشيد" قسرية وتخفيف أحمال سابق).
• الإنتاج المحلي: انهار إلى 4.2 مليار قدم مكعبة يومياً.
• الفجوة: نحو 1.8 مليار قدم مكعبة يومياً يتم تعويضها عبر الاستيراد المكلف.
في الوقت الذي تحتفل فيه الوزارة بتوفير 400 ألف متر مكعب من الغاز لتصديرها (عبر خفض استهلاك محلي)، فإن هذا "الوفر" لا يمثل إنجازاً إنتاجياً بقدر ما يعكس تراجعاً في الاستهلاك قد يكون ناتجاً عن تراجع النشاط الصناعي أو ترشيد قسري، وليس زيادة حقيقية في الثروة البترولية.
الفاتورة الغائبة: استيراد بالمليارات وتصدير بالملاليم
المفارقة الصارخة تكمن في المقارنة بين قيمة الصادرات والواردات:
• قيمة الصادرات المحتفى بها: حوالي 90 مليون دولار (شحنتان).
• فاتورة الاستيراد المتوقعة: تشير تقارير دولية ومحلية إلى أن فاتورة استيراد الوقود (غاز ومازوت) لعام 2025 قد تتجاوز 19-20 مليار دولار.
الحكومة عملياً تستدين وتستنزف الاحتياطي النقدي لاستيراد الغاز لتشغيل الكهرباء، ثم تقوم بتصدير كميات شحيحة لسداد ديون الشركات الأجنبية لكي تقنعهم بالبقاء والاستثمار، في حلقة مفرغة يدفع ثمنها المواطن من خلال ارتفاع أسعار الخدمات والسلع.
الاعتماد الخطير: رهان على "الغاز الإسرائيلي"
أشار المسؤول الحكومي صراحةً إلى أن جزءاً من سد الفجوة يتم عبر "الكميات الواردة عبر خطوط الأنابيب من إسرائيل".
هذا الاعتراف يؤكد استمرار الارتهان لغاز الاحتلال كركيزة أساسية للأمن الطاقي المصري، وهو ما يضع قرار مصر السيادي تحت ضغوط جيوسياسية هائلة، خاصة في ظل تقلبات المنطقة.
صفقة الغاز الإسرائيلي، التي روج لها البعض كداعم للبورصة وقطاع الأسمدة ، تحولت إلى قيد استراتيجي مع عجز الحقول المصرية (مثل "ظهر") عن تعويض النقص الطبيعي.
الخلاصة
ما يحدث ليس "عودة للتصدير" بمفهومه الاقتصادي السليم، بل هو إدارة للأزمة بالمسكنات.
الحكومة تقتطع من "لحم الحي" (الغاز المتاح) لتسديد فواتير الشركاء الأجانب الغاضبين من تأخر مستحقاتهم، بينما تملأ الفجوة بوقود مستورد باهظ الثمن.
النتيجة النهائية هي أن مصر، التي كانت تحلم بأن تكون مركزاً إقليمياً للطاقة، تحولت إلى "ممر" للغاز و"دافع" للفواتير، بينما تظل وعود الاكتفاء الذاتي حبراً على ورق البيانات الرسمية.

