لم تكن مأساة السائحة الإيطالية التي لقيت مصرعها إثر تصادم فندقين عائمين أمام هويس إسنا مجرد "حادث عرضي" كما حاولت بيانات الحكومة ترويجه، بل جرس إنذار عنيف يفضح هشاشة إجراءات السلامة وتردي الرقابة في قطاع السياحة النيلية، الذي يفترض أنه الواجهة الحضارية لمصر أمام العالم.
ففي وقت تتباهى فيه حكومة الانقلاب بالمشروعات الكبرى والوعود البراقة لجذب السائحين، تكشف هذه الكارثة أن المجرى الملاحي تحوّل إلى ساحة فوضى وغياب للمحاسبة، بينما يدفع الأبرياء الثمن — بجثث ومآسٍ تُطوى سريعًا بلا مساءلة حقيقية.
"مناورة قاتلة" على نهر بلا رقابة
الهيئة العامة للنقل النهري اعترفت في بيانها الرسمي بأن سائق الفندق العائم "بوريفاج" ارتكب مناورة حادة بالمخالفة لقواعد الملاحة، حين انحرف أمام الفندق "أوبرا" القادم من أسوان باتجاه الأقصر، ليصطدم به بعد عبوره هويس إسنا بنحو كيلومترين.
أسفر التصادم عن تهشم ثلاث كبائن وانبعاج في مقدمة الفندق الآخر، وأدى إلى وفاة سائحة إيطالية كانت على متن "بوريفاج"، في مشهد مأساوي حوّل رحلة نيلية إلى فوضى دامية.
ما لم يقله البيان الحكومي أن هذا الحادث وقع وسط غياب تام لمراقبي الملاحة ومراكز المتابعة الإلكترونية المفترض أن تعمل على مدار الساعة، وهو ما أكده الخبير الملاحي الربان محمد البحيري الذي قال في تصريح خاص:
"الحكومة تتعامل مع المجرى الملاحي وكأنه شارع داخلي، دون غرف تحكم حديثة ولا نظم مراقبة بالأقمار الصناعية كما هو معمول به عالميًا. ما يحدث هو إدارة عشوائية بمعنى الكلمة."
"السياحة في خطر".. خبراء يفضحون الإهمال الحكومي
الصدمة في الأوساط السياحية لم تأتِ فقط من الحادث، بل من الطريقة التي تعاملت بها الجهات الرسمية معه، التي اكتفت بعبارة "سحب رخصة القائد".
الخبير السياحي د. منى حمدي وصفت هذا الإجراء بأنه "ضحك على الذقون"، مضيفة أن "الحكومة تهمل البنية التحتية للسياحة النيلية منذ سنوات، ولا تخصص ميزانيات كافية لتدريب القباطنة أو صيانة الفنادق العائمة، لأن أولوياتها باتت سياسية واستعراضية."
أما هشام عبدالعزيز، عضو سابق باتحاد الغرف السياحية، فأشار إلى أن "الكارثة كشفت انعدام التنسيق بين وزارتي السياحة والنقل"، مؤكدًا: "لدينا أكثر من 280 فندقًا عائمًا تتحرك بين الأقصر وأسوان بسياسات تشغيل موروثة من التسعينيات... من دون تحديث، ومن دون رقابة فعلية على معايير السلامة أو عدد الركاب، وكل ذلك تحت عين الحكومة التي تكتفي بالشعارات."
ويؤكد الخبير الإيطالي في السياحة الثقافية ماريو روسي، الذي كان ضمن وفد تقييم سياحي بالقاهرة مطلع العام، أن الحادث "سيؤثر سلبًا على سمعة السياحة في مصر، خاصة لدى الأسواق الأوروبية".
"وسائل الإعلام في روما ملأت صفحاتها بالحادث، والسائح الأجنبي لن يفرّق كثيرًا بين الأقصر وشرم الشيخ، بل سيتعامل مع مصر كلها كوجهة خطرة إن لم يرَ شفافية ومحاسبة"، يقول روسي.
أما آخر هؤلاء الخبراء، الطيار السابق والخبير الملاحي عبدالقادر النجار، فيرى أن "العجلة الحكومية نحو التظاهر بالإنجاز أفرزت فوضى تنظيمية".
ويوضح: "عندما تُهمل الدولة أبسط مقاييس السلامة لأن همّها الأول هو تلميع الصورة السياسية، تكون النتيجة قتلى على نهر النيل. الحل ليس في المعاقبة بعد الكارثة، بل في بناء نظام رقابي مستقل عن السلطة التنفيذية."
هويس إسنا.. من رمز للسياحة إلى بؤرة حوادث
هويس إسنا الذي يُفترض أنه ممر منظم لعبور السفن، تحول في السنوات الأخيرة إلى نقطة اختناق تعاني من ازدحام ومشاحنات بين قباطنة الفنادق العائمة.
ففي أكتوبر الماضي فقط، سجلت السلطات ثلاث حوادث اصطدام خفيفة في المنطقة ذاتها، نُسبت جميعها إلى "خطأ في التقدير"، من دون أن تتخذ الحكومة أي خطوة ملموسة لتحسين التنظيم أو فرض رقابة تقنية.
وبحسب مصادر في قطاع الملاحة بالأقصر، فإن عدد الفنادق التي تعبر الهويس يوميًا يفوق بكثير طاقته المصممة، ما يجعل احتمالات التصادم قائمة في أي لحظة.
ويؤكد الباحث في الشأن السياحي عمرو فايز أن "الهويس يختصر مأساة القطاع بأكمله — مشاريع مهترئة تعمل بأجهزة خمسينية، وسلطات تتدخل فقط بعد الموت."
"هذه ليست حادثة منفصلة، إنها نتيجة حتمية لإهمال الحكومة وتراخيها، ونتيجة مناخ عام أصبحت فيه المساءلة مستحيلة."
انهيار المصداقية وغياب العدالة
في الوقت الذي تتداول فيه الصحف الأوروبية انتقادات حادة لإدارة السلامة في مصر، اكتفت الجهات المصرية ببيانات غامضة وتجاهلت حتى إعلان هوية الضحية كاملة أو الاعتذار لعائلتها.
هذا التعتيم وصفه مراقبون بأنه "خوف من الإحراج الدولي"، في حين يرى آخرون أنه استمرار لسياسة الهروب من المسؤولية التي تطبع أداء مؤسسات الدولة منذ انقلاب 2013.
في النهاية، لم تكن وفاة سائحة إيطالية مجرد حادث في مجرى النيل، بل مرآة لحالة انهيار الثقة في المؤسسات، وانكشاف ما وراء الشعارات الحكومية البراقة.
فبينما ترفع السلطة شعار "مصر آمنة"، تبدو الحقيقة مؤلمة: نهر النيل لم يعد مجرى للحياة، بل مسرحًا يعكس فوضى ممنهجة تسير بلا محاسبة ولا بوصلة.

