تخيل مشهدًا: شاب مسلم، يحمل اسمًا عربيًا، يغامر بحياته لإنقاذ مجموعة من المدنيين من عمل إرهابي يستهدفهم في دولة غربية بعيدة، فينجح في تقليل الخسائر أو إحباط الجريمة بالكامل. في لحظة الحدث، تتجه كاميرات الإعلام إلى مكان الجريمة، لكن رواية البطولة تُقصّ وتُفصّل تدريجيًا بحيث يتراجع اسم البطل المسلم إلى الهامش، وتظهر بدلاً منه عناوين مموّهة: «شجاعة المجتمع»، «تكاتف المواطنين»، أو نسب الفضل إلى أجهزة الدولة وحدها. هكذا تتحول تضحية فرد مسلم إلى قصة باهتة بلا ملامح، في إطار إستراتيجية أوسع لتفريغ أي نموذج إيجابي للمسلم من محتواه، حتى لا يهتز خطاب الكراهية والإسلاموفوبيا.
أولًا: من البطولة الفردية إلى سردية «المؤسسات البيضاء»
في مثل هذه السيناريوهات، لا يكون الهدف إنكار الحدث نفسه، بل إعادة صياغته ضمن سردية تخدم القوى المهيمنة إعلاميًا وسياسيًا. بدل القول: «مسلم أنقذ يهودًا أو غربيين من الإرهاب»، يتم التركيز على «كفاءة الشرطة»، أو «جاهزية الأجهزة»، أو حتى «تكاتف المجتمع الغربي في مواجهة التطرف». بهذا تُسحب الأضواء من صورة المسلم كبطل أخلاقي شجاع، ويُعاد تثبيت الصورة النمطية له كخطر محتمل أو كعنصر هامشي لا دور له في صناعة الخير. هذه التقنية تُستخدم مرارًا في الإعلام الغربي الصهيوني لتجنب أي اعتراف بأن المسلمين يمكن أن يكونوا في صف الضحايا والمنقذين، لا في خانة المتهمين الدائمة.
ثانيًا: التوظيف الصهيوني – قلب الضحية إلى جلاد والعكس
المشروع الصهيوني، إعلاميًا وسياسيًا، يقوم على معادلة بسيطة: «اليهود دائمًا ضحايا، والمسلمون/العرب غالبًا جناة أو متواطئون». عندما يظهر نموذج مسلم يضحي بحياته لإنقاذ يهود أو مدنيين غربيين، يتصدع هذا البناء الدعائي، لذلك تُطلق أدوات التفريغ والتشكيك. يتم التقليل من شأن دوره، أو الزعم بأن ما فعله «جزء من واجبه المهني»، أو الترويج لروايات بديلة تشكك في نواياه أو تقلل من أهميته. في بعض الحالات، يُمنح شكر شكلي ولكن مع حرص شديد على ألا يتحول اسمه إلى رمز يُستدعى في وجه رواية «المسلم الخطر». بهذا لا يكون الصمت مجرد إهمال، بل فعل سياسي محسوب يحمي سردية صهيونية استعلائية لا تحتمل رؤية المسلم في موقع البطل الأخلاقي.
ثالثًا: المال السياسي والإعلام الممول خليجيًا
في السنوات الأخيرة، لعبت بعض الأنظمة الخليجية، وعلى رأسها الإمارات، دورًا مركزيًا في تمويل منصات إعلامية عربية تخدم أجندة التطبيع مع الاحتلال وتبني خطابًا معاديًا لتيارات المقاومة والهوية الإسلامية. في إطار هذا التمويل، يصبح من الطبيعي أن يتم تجاهل أو تمييع أي نموذج بطولي لمسلم يجسد قيم التضحية والنجدة والشهامة، خاصة إذا اصطدم ذلك بمصالح التحالفات السياسية والاقتصادية مع الغرب والصهاينة. بدل إبراز قصة البطل المسلم الذي أنقذ ضحايا أبرياء، يُضخ الهواء في قصص مصطنعة عن «تسامح» أنظمة قمعية، أو «تحضر» مشاريع ترفيهية، بينما تُترك نماذج التضحية الحقيقية في الظل. هذه الطريقة لا تُفرغ حدثًا واحدًا فقط من معناه، بل تُحاصر المخيال الجمعي حتى لا يجد أمامه قدوة حقيقية يتشبث بها.
رابعًا: المنظومة الغربية والإسلاموفوبيا البنيوية
الإعلام الغربي السائد يتعامل مع موضوع الإسلام والمسلمين ضمن بنية أعمق من الإسلاموفوبيا: الإرهاب يُربط مباشرة بالإسلام، أما الشجاعة والبطولة فتُنسب إلى «قيم المجتمع الغربي» أو «التدريب الاحترافي» أو «الأفراد البيض». عندما يكسر مسلم هذه القاعدة وينقذ يهودًا أو أستراليين أو غيرهم من عمل إرهابي، فذلك يضعف الأساس العاطفي والسياسي لحملات القوانين التمييزية، ومشروعات المراقبة الأمنية، وخطاب «الخطر الإسلامي» الذي يبرر التدخلات العسكرية والقيود على الحريات. لذلك، حتى لو ذُكرت قصته عابرًا، يجري لاحقًا إغراقها في ضجيج أخبار أخرى، أو إعادة تدويرها بطريقة لا تفتح الباب لتغيير الصورة النمطية. التفريغ هنا ليس فقط قرارًا سياسيًا، بل انعكاس لبنية كاملة تستثمر في إبقاء المسلم في خانة «المشكلة» لا «الحل».
ضرورة توثيق الذات وفرض السردية العادلة
سواء وُجدت حادثة بعينها أم لا، فإن نمط التعامل مع بطولات المسلمين واضح: تجاهل، تمييع، أو احتواء ضمن سرديات لا تهز خطاب الكراهية والتحالفات السياسية القائمة. أمام هذا الواقع، تصبح مسؤولية توثيق قصص التضحية والإنقاذ والبطولة التي يقوم بها المسلمون مسئولية ملحّة على المجتمعات والقوى الحية، لا على إعلام ممول من خصومهم. المطلوب ليس اختراع أساطير، بل جمع الشهادات، وتوثيق الوقائع، وإبراز البعد الإنساني والأخلاقي في سلوك الأفراد بعيدًا عن الحسابات العنصرية والسياسية. ما لم يبنِ المسلمون سرديتهم العادلة حول أنفسهم، ستستمر الحملات الصهيونية والغربية ومعها أدوات عربية تابعة في تفريغ كل تضحية من معناها، وترك الأبطال الحقيقيين بلا أسماء ولا ذكْر في ذاكرة الأمة والعالم.

