تشير واقعة ضبط 23 شركة سياحة تعمل دون ترخيص إلى أن أزمة الحج والعمرة في مصر لم تعد مجرد خلل إداري، بل أصبحت عنوانًا لانهيار منظومة كاملة تركت المواطن فريسة للنصب والابتزاز الديني. ما جرى ليس حدثًا عرضيًا، بل حلقة جديدة في مسلسل فوضى مُستدامة تتحمل مسؤوليته الكاملة سلطة تزعم إحكام القبضة الأمنية بينما تعجز عن حماية أقدس ما يمتلكه الفقراء: مدخرات أعمارهم وحلم زيارة بيت الله الحرام.
"سياسات الجباية" تفتح الأبواب الخلفية للنصابين
يتفق خبراء القطاع السياحي على أن الحكومة ليست بريئة من خلق البيئة الخصبة لهذه الكيانات الوهمية. وفي هذا السياق، يرى مجدي صادق، عضو الجمعية العمومية لغرفة شركات السياحة، أن القرارات الحكومية الرسمية تصب عمليًا في صالح السماسرة. ويشرح "صادق" أن القيود والرسوم المبالغ فيها التي تفرضها الوزارة على الشركات المرخصة تجعل الأسعار خيالية، مما يدفع المواطن دفعًا للبحث عن البديل الأرخص لدى الكيانات غير الشرعية التي تعمل بحرية في "الظل" وتتهرب من الضرائب.
من جانبه، حمّل باسل السيسي، نائب رئيس غرفة شركات السياحة السابق، المسؤولية لانتشار "سماسرة التواصل الاجتماعي"، مشيرًا إلى أن هذه الكيانات الوهمية تستغل جهل المواطنين البسطاء وتدني الثقافة القانونية، خاصة في الأرياف، لتبيع لهم "الوهم" بأسعار زهيدة. وأكد أن هذه الظاهرة تفاقمت لأن الرقابة لا تتحرك إلا بعد وقوع الكارثة، بدلاً من منعها ابتداءً.
وفي تعليق أكثر حدة، حذر عصام علي الدين، الخبير السياحي، من أن حتى بعض الشركات التي تدعي تقديم خدمات قد تكون "فخًا"، حيث يفاجأ المعتمر بخدمات مخالفة تمامًا لما تم الاتفاق عليه، مشددًا على أن السنوات الأخيرة شهدت انفلاتًا غير مسبوق في عمليات النصب تحت غطاء ديني، وسط تراخٍ في تطبيق القانون الرادع.
استغاثات الضحايا: "بعنا اللي وراكم واللي قدامكم عشان الحرم"
لم تكن تحذيرات الخبراء إلا صدى لصرخات المواطنين الذين وقعوا ضحايا لهذه المافيا، حيث تحولت صفحات التواصل الاجتماعي إلى سجل مفتوح لعمليات النصب:
استغاثات الضحايا: "نصب باسم الدين وضياع لمدخرات العمر"
تحولت مجموعات السفر والعمرة إلى ساحة للبكاء على اللبن المسكوب، حيث توالت منشورات المواطنين الذين تعرضوا للخديعة. إحدى السيدات صرخت مستغيثة بعد تجربتها المريرة مع شركة تركتها في منتصف الطريق، باحثة عن أي جهة رسمية تأتي لها بحقها الضائع وسط تجاهل تام.
https://www.facebook.com/groups/361936839581777/posts/851781857263937/
وفي مشهد آخر يعكس حجم الكارثة، طلب أحد المواطنين المساعدة القانونية لتقديم بلاغ ضد شركة سياحة خدعته في رحلة العمرة، مؤكدًا تعرضه للنصب المباشر وضياع أمواله التي دفعها مقابل خدمات وهمية لم يرها على أرض الواقع.
https://www.facebook.com/groups/findhajj/posts/9811631705532894/
لم يتوقف الأمر عند فشل التنظيم، بل وصل إلى التلاعب الكامل، حيث اشتكى آخرون من شركات تتصل بهم لتبلغهم بالفوز برحلات عمرة وهمية لاستدراجهم وسرقة أموالهم تحت ستار "الجوائز"، في استغلال بشع لعواطف البسطاء الدينية.
https://www.facebook.com/groups/110558315642785/posts/7841291359236070/
كما وثقت سيدة مصرية بالفيديو تعرضها للنصب من إحدى الشركات التي زعمت تنظيم رحلات مخفضة، لتكتشف أنها وقعت ضحية لكيان وهمي استولى على أموالها واختفى القائمون عليه.
وتتكرر المأساة مع مواطنة أخرى تسأل عن كيفية استرداد حقها من شركة "مصر الجديدة" للسياحة بعد تعامل سيئ وتجربة نصب، وسط تحذيرات من التعامل مع شركات أوقفتها الوزارة ومع ذلك تستمر في العمل في الخفاء.
https://www.facebook.com/groups/361936839581777/posts/382559144186213/
خلاصة: دولة شريكة في الجريمة
إن التعامل مع الواقعة كقضية جنائية بحتة تخص "مجموعة محتالة" هو تهرّب فج من المسؤولية السياسية. النصابون يتحملون جرمهم الجنائي، لكن المسؤول الأول عن حجم الكارثة هو سلطة حوّلت موسم الحج والعمرة إلى مساحة متخمة بالجشع والاحتكار، وتركت المواطن بين مطرقة الأسعار الرسمية وسندان النصب غير الرسمي. إن حكومة تُحكم سيطرتها على كل نفس معارض، وتغلق المجال العام، ثم تدّعي أنها "لم تنتبه" لعمل 23 شركة سياحة بلا ترخيص، هي حكومة شريكة موضوعيًا في الجريمة. ما يحتاجه المصريون ليس بيانًا أمنيًا، بل نسف لمنظومة الجباية التي حولت العبادة إلى سلعة لمن يدفع أكثر.

