في مشهد يلخّص حجم المأساة التي يعيشها النازحون في قطاع غزة، تحوّلت مراكز الإيواء المؤقتة خلال الساعات الماضية إلى برك من المياه والطين، بعد أن أغرقت الأمطار الغزيرة خيام آلاف العائلات في دير البلح ومناطق الجنوب. ولم يكن برد الليلة الماضية عادياً بالنسبة لهؤلاء المنهكين من الحرب والنزوح، بل كانت – بشهادة الناجين – "الليلة الأقسى" منذ اضطرارهم لمغادرة بيوتهم تحت القصف.
وخلال تغطية ميدانية مباشرة، وثّق فريق إحدى الفضائيات العربية حجم الكارثة داخل أحد مراكز الإيواء في دير البلح بوسط القطاع، حيث بدت الخيام البلاستيكية والقماشية وكأنها لاجئة هي الأخرى أمام سيل المطر والرياح، في وقت تتفاقم فيه الأزمة مع كل منخفض جوي يضرب المنطقة، في ظل غياب شبه كامل لمقومات الحماية والحد الأدنى من التجهيزات.
مشاهد كارثية داخل المخيم
داخل المخيم، بدت الصورة صادمة ومؤلمة؛ خيام غارقة حتى أطرافها، أطفال يتنقلون حفاة وسط مياه باردة، وأرض تحوّلت إلى مستنقعات من الطين والمياه الراكدة. إحدى السيدات النازحات وصفت ليلتها بـ"المرعبة"، قائلة إنهم ظلّوا طوال الليل يعصرون الأغطية والفرش بعد أن تسربت المياه من كل اتجاه داخل الخيمة، بينما اضطر الأطفال للنوم على فراش مبلل بالكامل، دون وجود أي وسيلة للتدفئة أو أغطية جافة تحميهم من البرد القارس.
وأكد شهود عيان أن الخيام المصنوعة من النايلون والقماش المهترئ لم توفّر أي حماية حقيقية أمام العاصفة، بل تحولت إلى عبء إضافي على قاطنيها، إذ تتجمع المياه فوقها ثم تتسرب فجأة إلى الداخل، لتغمر ما تبقى من أمتعة بسيطة وملابس متواضعة. وداخل الأزقة الضيقة بين الخيام، فاضت مناطق مخصّصة لقضاء الحاجة بمياه الأمطار الممتزجة بمياه الصرف، في مشهد ينذر بكارثة صحية، خصوصًا على الأطفال وكبار السن.
معاناة النازحين في قلب العاصفة
خلال الجولة الميدانية، ظهر رجال ونساء مسنون يروون ما عاشوه طوال الليل من خوف وبرد وسهر قسري. إحدى السيدات قالت إنها لم تمرّ بليلة أسوأ من هذه منذ عقود، مؤكدة أنهم اضطروا لحفر "جور" في الأرض بأيديهم لتصريف المياه من داخل الخيمة، في محاولة يائسة لإنقاذ ما تبقّى من فراش وأغطية قبل أن تجرفها السيول الصغيرة التي شكّلتها الأمطار داخل المخيم.
في زوايا أخرى، وثّقت الكاميرا أطفالاً يلعبون وسط المياه الباردة، لا حبًّا في اللعب، بل لافتقاد أي مكان آمن أو مساحة جافة يلوذون بها. وبينما كان البعض يحاول جمع ما يمكن تجفيفه من الملابس والفرش، كان آخرون يقفون في طابور طويل بانتظار حصولهم على بطانية أو قطعة نايلون إضافية تقي خيمتهم من الانهيار أمام موجة الأمطار التالية.
غرق 90% من مراكز الإيواء جنوبًا
المأساة لم تقتصر على دير البلح وحدها؛ فقد أكد مراسل ميداني أن قرابة 90% من مراكز الإيواء في المنطقة الجنوبية لقطاع غزة غرقت في ساعات الصباح الأولى، وهو ما ترك آلاف العائلات فعليًا بلا مأوى أو غطاء. هذا الغرق شبه الشامل لمراكز الإيواء كشف هشاشة البنية المؤقتة التي فُرضت على النازحين، واعتمادها الكلي تقريبًا على خيام رخيصة لا تصلح للصيف ولا الشتاء.
الأخطر من ذلك، سجلت فرق التغطية والإسعاف حالة وفاة لطفلة في أحد مراكز الإيواء بغرب خان يونس نتيجة التجمد من شدة البرد، في استمرار لسلسلة المآسي التي تطارد النازحين منذ بداية الحرب. هذه الحادثة المروعة تتحول إلى رمز لوضع إنساني يهدد مئات الآلاف، خاصة مع توقعات بمزيد من الليالي القاسية مع استمرار المنخفض الجوي.
نداءات استغاثة لا تجد من يجيب
أمام هذا الواقع الكارثي، أطلق النازحون نداءات استغاثة متواصلة للمنظمات الدولية والإنسانية، مطالبين بأبسط الاحتياجات العاجلة: خيام سليمة مقاومة للمطر، بطانيات وأغطية ثقيلة، فرش جافة، ملابس شتوية، وحليب للأطفال. كثيرون أكدوا أن ما يصل من مساعدات "قليل جدًا ولا يكفي لسد جزء بسيط من الاحتياجات"، وأن توزيعها لا يغطي مساحة الألم المنتشر في المخيمات المترامية.
وعن إمكانية إدخال بيوت متنقلة "كرفانات" إلى القطاع، أوضح المراسل أنه لم يدخل أي منها منذ بداية الحرب، رغم المناشدات المتكررة من النازحين والجهات المحلية، وأن ما هو متاح حاليًا لا يتجاوز بعض الخيام والشوادر غير الصالحة لتحمّل ظروف الشتاء القاسية. ووسط هذا العجز، ترتفع المخاوف من تدهور سريع في الأوضاع الصحية والإنسانية خلال الساعات والأيام المقبلة إذا لم يتم التدخل فورًا لتأمين وسائل حماية حقيقية من الأمطار والبرد.
كارثة إنسانية تتفاقم كل ساعة
في ختام التغطية، شدد المراسل على أن ما يشهده قطاع غزة اليوم هو كارثة إنسانية مكتملة الأركان، تتفاقم مع كل ساعة تمرّ، ومع كل موجة مطر جديدة، في ظل غياب الحد الأدنى من مقومات الحياة الكريمة. فبين استمرار الأمطار وغياب المأوى الآمن، يبقى آلاف النازحين – بينهم أطفال ونساء وكبار سن – في مواجهة مصير مجهول، يهددهم بالغرق والمرض والجوع والبرد في آن واحد.
هذه الصور القادمة من قلب المخيمات لا تترك مجالًا للحياد أو الصمت؛ فهي صرخة واضحة للمجتمع الدولي وكل الجهات المعنية لتحمّل مسؤولياتها القانونية والأخلاقية تجاه المدنيين المحاصرين، قبل أن تتحول هذه الليالي الباردة إلى مقابر جماعية صامتة لأناس لم يملكوا سوى خيمة مهترئة تحتمي بها أجسادهم المنهكة من الحرب والنزوح والعاصفة.

