بعد ساعات فقط من الحكم الصادر ضد عامل في إحدى المدارس الدولية بالإسكندرية، انفجرت فضيحة اعتداء جديدة في قلب القاهرة، وهذه المرة داخل مدرسة الياسمين الدولية الشهيرة بالتجمع الأول، التابعة لوزارة التربية والتعليم، والخاضعة نظريًا لـ"إشراف كامل" من الدولة. الفضيحة المتهم فيها حتى الآن فرد أمن، وسط بلاغات تتعلق بالاعتداء على 5 تلاميذ في مرحلة حساسة من العمر، كشفت ليس فقط مأساة أسر مكلومة، بل انهيار منظومة رقابة كان يفترض أن تحمي الأطفال بدل أن تسلّمهم بأيديها لذئاب بشرية.
أولياء الأمور لم يتحدثوا عن "واقعة فردية"، بل عن تجاهل إداري وصفوه بـ"المريب" و"غير المقبول"، وعن صمت متعمّد رغم وصول شكاوى مبكرة منذ أيام، ما يفتح الباب أمام سؤال أكبر: من يحمي أبناءنا في مدارس تدفع فيها الأسر آلاف الجنيهات، بينما تغيب فيها أبسط معايير الأمان والرقابة؟ وأين وزارة التربية والتعليم من سلسلة فضائح متكررة في مدارس يفترض أنها نموذجية في ظل حكومة لا تجيد إلا الكلام عن "التطوير" و"التحول الرقمي" بينما أطفالها يتعرضون للاعتداء في الحمامات والزوايا المعتمة؟
رسائل استغاثة على جروبات الواتساب.. ثم اختفاء مريب
ولي الأمر الدكتور محمد سمير روى بداية الكارثة من رسالة قصيرة على جروب واتساب خاص بمرحلة رياض الأطفال. ولية أمر كتبت أن ابنتها تعرضت للتحرش "عن طريق فرد الأمن"، ثم اختفت فجأة من الجروب بعد تلك الكلمات القليلة. انهالت عليها الأسئلة: "إيه قصدك؟"، لترد بعبارة تكفي وحدها لإدانة إدارة المدرسة والوزارة معًا: "أنا بحاول أوصل للمدرسة من يوم الأحد ومفيش حد بيرد".
صمت الإدارة، ومحاولة دفن الرسالة الأولى، يعكسان مناخ ترهيب غير مباشر؛ أم خائفة، مدرسة تحاول "لم الموضوع"، وجروبات مغلقة تتحول إلى ساحات استغاثة بدل أن تكون وسيلة تواصل تربوي. هذه ليست بيئة تعليمية، بل مسرح جريمة تُدار خلف واجهة لامعة من الإعلانات والشعارات بالإنجليزية.
تدخل الشرطة يكشف حجم التستر
في اليوم التالي، توجّه الدكتور محمد سمير إلى المدرسة في الحادية عشرة والنصف صباحًا، متأخرًا عن بداية اليوم الدراسي بثلاث ساعات، ليجد الشرطة داخل الحرم المدرسي. لم تتحرك الإدارة من تلقاء نفسها، بل بعض أولياء الأمور هم من اتصلوا بالشرطة وحرروا بلاغات رسمية، ليكتشفوا أن الإدارة على علم بالواقعة منذ يوم الأحد، وتدّعي أنها "تجري تحقيقات داخلية".
هنا تظهر بوضوح عقلية التستر: إدارة تعرف، تسوّف، تلتزم الصمت، وتحاول احتواء الغضب بعيدًا عن القانون والرأي العام، إلى أن يفرض وجود الشرطة اعترافًا جزئيًا بما حدث. تم القبض على فرد الأمن المتهم، ويُقال إن اثنتين من "الناني" احتُجزتا معه بتهمة مساعدته، ما يعني أن الأمر لم يكن "تصرفًا فرديًا في لحظة"، بل محتمل أن يكون نمطًا من الاستغلال داخل شبكة ثغرات وإهمال.
كاميرات غائبة وزوايا معتمة في مدرسة "دولية"
الصدمة الأخرى التي كشفها أولياء الأمور أن مدرسة بهذا الحجم و"البرستيج" وارتفاع المصروفات، لا تمتلك منظومة كاميرات مراقبة حقيقية. كاميرتان فقط داخل الفصل، ولا وجود لأي كاميرات أمام الحمامات، ولا تغطية للممرات الحساسة، بينما تم العثور على "أكشاك مهجورة" بين الجدران تُشكّل ممرات ومخابئ تسمح باختباء أي شخص والقيام بما يشاء بعيدًا عن الأنظار.
كيف تسمح وزارة التربية والتعليم لمدرسة حكومية دولية تمتلك أكثر من 18 فرعًا على مستوى الجمهورية بالعمل دون منظومة مراقبة محترمة؟ من منح الترخيص؟ من جدّد الاعتماد؟ من وقّع على أوراق "الانضباط والجودة"؟ هذه ليست مجرد ثغرات هندسية، بل بيئة مثالية للجريمة، صنعتها إدارة عاجزة ووزارة غائبة ودولة لا ترى في التعليم إلا بندًا للدعاية السياسية.
شكاوى قديمة.. وإهمال ممنهج
المؤلم أن الكارثة لم تكن "أول إنذار". فقد ظهرت رسائل قديمة من ولية أمر أرسلت للمدرسة منذ أكتوبر، تشكو أن ابنها يعود ببنطال ممزق، ورأس مصاب، ولا يقدر على الرد على الأسئلة، ويتأخر في العودة من الباص، ويفقد ملابسه مثل الجاكيت الخاص به. هذه المؤشرات وحدها تكفي لفتح تحقيق فوري واستدعاء كل المعنيين، لكن الإدارة – كما يبدو – اعتبرت الأمر "تفاصيل عابرة" لا تستحق القلق.
هذا الإهمال الممنهج يجعل الإدارة شريكة في الجريمة، ليس قانونيًا فقط، بل أخلاقيًا وتربويًا. فحين يتكرر نمط إصابات، وتمزق ملابس، وتغيّر سلوك طفل، ولا تتحرك المدرسة، فهذا يعني أن سلامة الأطفال ليست أولوية، وأن "سمعة المؤسسة" – في عرفهم – أهم من أجساد الصغار ونفسياتهم.
منظومة تعليم تحت حكم الانقلاب: شعارات لامعة وواقع مظلم
فضيحة مدرسة الياسمين الدولية ليست حادثة منعزلة، بل حلقة جديدة في سلسلة انهيار منظومة التعليم والرقابة والقيم في عهد حكومة لا ترى في المدارس إلا لافتات ومباني ومصاريف، بينما يختفي دور الرقابة الحقيقية، والتأهيل النفسي، والانتقاء الصارم للعاملين مع الأطفال، وخاصة أفراد الأمن والعاملين في المرافق الحساسة.
نظام ينفق المليارات على عواصم جديدة وطرق وجسور، لكنه يعجز عن فرض كاميرات مراقبة في مدارس الأطفال، واختيار كوادر مؤهلة، ومحاسبة إدارات تتستر على الجرائم، هو نظام لا يحق له أن يتحدث عن "الجمهورية الجديدة" ولا "تطوير التعليم". فأول امتحان لأي دولة حقيقية هو: كيف تحمي أطفالها داخل مدارسها؟ وما يحدث الآن يقول بوضوح إن هذه السلطة فشلت في أبسط واجباتها، وتركت الصغار في مواجهة مباشرة مع الخوف والاعتداء والصمت.

