إعلان مصلحة الضرائب عن «الحزمة الثانية من التسهيلات الضريبية» ليس سياسة عدالة، بل حملة علاقات عامة لتلميع واحدة من أكثر ماكينات الجباية شراسة في تاريخ مصر الحديث، تحت لافتة «تحفيز الالتزام الضريبي» و«تعميق الثقة مع الممولين».

 

بينما تُحاصر الطبقة الوسطى والصغار بالأسعار والضرائب غير المباشرة، يخرج النظام ليبيع لهم الوهم في صورة «كارت تميز ضريبي» وشهادات تقدير ومؤتمر سنوي اسمه «شكراً» للملتزمين.

 

كارت التميز.. جائزة ولاء لا إصلاح منظومة

 

رئيسة مصلحة الضرائب، رشا عبدالعال، أعلنت أن الحزمة الجديدة ستمنح «كارت تميز ضريبي» للممولين الملتزمين، يسهّل تعاملاتهم مع المصلحة ويمنحهم أولوية في الخدمات داخل وحدات متخصصة كالرأي المسبق ودعم المستثمرين ووحدة الشكاوى. الكارت سيُمنح وفق «معايير محددة ومعلنة»، مع شهادات تقدير وأوسمة وخط ساخن خاص، بل وتكرار مؤتمر «شكراً» سنوياً للاحتفال بـ«الممول النموذجي».

 

بهذا تتحول العلاقة بين الدولة ودافعي الضرائب من علاقة حقوق وواجبات إلى نظام «لوياج» سياسي واقتصادي: من يرضى عنه الجهاز ويحافظ على صورته في دفاتر الحكومة يحصل على كارت VIP وخط ساخن وشكر علني، بينما يبقى الآخرون في طابور الاتهام والتدقيق والتهديد بالحجز.

 

حوافز للأقوياء.. وتشديد على القاعدة الأضعف

 

الحزمة تتضمن «الرد الفوري والمعجل» لضريبة القيمة المضافة لحاملي كارت التميز خلال أسبوع من تقديم طلب الرد، إلى جانب تبسيط الإجراءات وزيادة عدد حالات ومبالغ الرد، خاصة لمشروعات القانون 6 لسنة 2025 للمشروعات الصغيرة. وزير المالية نفسه أعلن أن إعادة هيكلة وحدات رد الضريبة تستهدف جعل السيولة النقدية متاحة بسرعة أكبر للممولين الموجودين على «القائمة البيضاء» أو الحاصلين على بطاقة التميز.

 

رسالة المنظومة واضحة: الشركات الأكبر والأكثر تنظيمًا، القادرة على الانخراط في الأنظمة الإلكترونية والتكيّف مع التعقيد البيروقراطي، تحصل على رد سريع للضريبة، ومزايا خاصة، بينما يظل صغار الممولين، وأصحاب الأنشطة شبه الرسمية، عالقين في طوابير الفحص والنزاعات والجزاءات. بدل أن تُوجّه الدولة جهدها لإدماج القاعدة الأوسع في الاقتصاد الرسمي بشروط عادلة، تكرّس فجوة بين «مواطن ضريبي ممتاز» وآخر يُعامل كمتهم افتراضي.

 

استدامة الجباية تحت لافتة «استدامة الالتزام»

 

البيانات الرسمية تتحدث عن «تعزيز استدامة الالتزام الضريبي وتعميق الثقة ودعم الشراكة الحقيقية مع الممولين»، مع أرقام عن قفزة في رد ضريبة القيمة المضافة لتصل إلى نحو 7.2 مليار جنيه بزيادة 151% في العام المالي 2024/2025.

 

لكن هذه الأرقام تُستخدم بالأساس لتسويق صورة حكومة «مرنة وحديثة» أمام المستثمرين والجهات الدولية، في الوقت الذي توسّع فيه الدولة القاعدة الضريبية أفقيًا، وتزيد الاعتماد على الضرائب غير المباشرة (كالقيمة المضافة) التي يتحمل عبئها الفقراء والطبقة الوسطى.

 

حتى قانون 6 لسنة 2025 لمزايا المشروعات الصغيرة يُقدَّم كمنحة كريمة من الدولة، بينما هو في جوهره أداة لجرّ عشرات الآلاف من الأنشطة الصغيرة إلى شبكة الجباية، مع إلزامها بنظم إقرار إلكترونية ربع سنوية، ومراقبة صارمة، مقابل نسب ضريبية تبدو منخفضة على الورق لكنها تُدفع في اقتصاد متضخم ومختل.

 

تكريم «الممول المطيع» بدل بناء عقد ضريبي عادل

 

المصلحة تعلن بفخر عن «شهادات تقدير وأوسمة» وخط ساخن مستقل وامتيازات شكلية، وكأن جوهر مشكلة الضرائب في مصر هو غياب الشكر، لا غياب العدالة والشفافية ومقابل الخدمات العامة. تُكرَّم الشركات الملتزمة في مؤتمر «شكراً» سنوي، بينما لا يجد المواطن العادي ما يشكره عليه في خدمات تعليم وصحة ونقل عام منهارة، رغم أن ضريبة القيمة المضافة والرسوم والجبايات تلاحقه في كل فاتورة وسلعة.

 

في النظم الديمقراطية، الحديث يكون عن «عقد ضريبي»: المواطن يدفع لأنه يرى أمامه تعليمًا مقبولًا، وصحة محترمة، وبنية تحتية حقيقية، وتمثيلًا سياسيًا يضمن رقابة على أوجه الإنفاق، أما في نموذج حكم السيسي فالمعادلة معكوسة: ادفع أولًا، ثم خذ كارت تميز وصورة في مؤتمر، وربما رد ضريبة أسرع… بينما تبقى القرارات الكبرى والإنفاق الفعلي خارج أي رقابة شعبية.

 

ضرائب في خدمة السلطة لا المجتمع

 

حين يربط السيسي بنفسه إطلاق «حزم التسهيلات الضريبية» ويقدَّم ذلك كجزء من تحسين مناخ الاستثمار، فإن الرسالة الحقيقية للداخل هي تكريس دولة جباية مُمَركزة، تُفرّق بين مطيع تحصل له الأمور بسلاسة، ومغضوب عليه تحاصره اللجان والفحص والغرامات. ويجري ذلك في ظل غياب برلمان مستقل أو إعلام حر يناقش من يدفع أكثر ومن يستفيد أكثر، ومن يُستثنى من الضرائب أصلًا من شبكات المصالح والمؤسسات السيادية.

 

بهذا تتحول «الحزمة الثانية من التسهيلات الضريبية» إلى حلقة جديدة في مسلسل حكم يفضّل تلميع ماكينة الجباية على إصلاح المنظومة الاقتصادية، ويختار مكافأة «الممول المطيع» بالكروت والأوسمة، بدل أن يبني نظامًا ضريبيًا عادلًا يخفف الحمل عن الكادحين، ويحمّل الثمن الحقيقي لمن استفادوا من الفساد والاحتكار وشبكات السلطة منذ انقلاب يوليو وحتى اليوم.