سامح راشد

باحث مصري متخصص في العلاقات الدولية والشؤون الإقليمية للشرق الأوسط

 

تُعرف البلاد المُتحضِّرة بما تقدّمه لأهلها من قيمة واهتمام، فيؤدّي الحكام والمسؤولون أدوارَهم المُتعارَف عليها في العقد الاجتماعي المُبرَم بين المواطن والحكومة. ويتجسّد تقدير قيمة المواطن واحترام مواطنته (وقبلها إنسانيّته) في قوانين تكفل للمواطن استيفاء حقوقه غير منقوصة، وسياسات عامّة واقتصادية توفّر له معيشةً لائقةً، ومجالٍ عامٍّ يضمن الأمان والطمأنينة للواقع والمستقبل. أمّا البلاد المُتخلِّفة، فلا يرجع تخلّفها إلى العوز الاقتصادي أو الفشل الإداري أو حتى إلى القمع السياسي. فتلك عوامل وسيطة تزيد الأمر سوءًا وتعمّق التخلّف، لكنّها في الأصل مردودٌ طبيعي للنظرة الفوقية من الحكّام وأولي الأمر إلى المواطنين، فتلبية الاحتياجات واستجابة المطالب ليست مرهونةً فقط بتوفر الإمكانات ووفرة الموارد، وإنما الإرادة هي الأساس، فدولٌ كثيرة تملك مواردَ وقدراتٍ كافيةً لتأمين حياة جيّدة وآمنة لمواطنيها، لكنّها لا تفعل، ليس لعجز المؤسّسات أو عدم كفاءة المسؤولين؛ بدليل أن مهارة المسؤولين وقدرة المؤسّسات تظهر بجلاء في مناسبات بعينها، حين تتوافر إرادة الإنجاز.

 

ينطبق ما سبق كلّه على الحالة المصرية البائسة؛ فتُجرى فعّاليات مهمّة مثل افتتاح متحف أو استضافة مؤتمر عالمي أو تنظيم بطولة دولية على نحو نموذجي، بينما يعاني المصريون في حياتهم اليومية إهمالًا ولا مبالاة بحاضرهم وبمستقبل أولادهم، بل وبأرواحهم. فقبل أيام، لقي طفل مصري مصرعه غرقًا وهو يتسابق في بطولة الجمهورية للسباحة، في غفلةٍ من القائمين على البطولة، منظّمين ومراقبين وحكّامًا. ولم تكن أدوات إسعاف حالات الغرق والاختناق متوافرة في المكان، رغم أن المسابقة هي الأكبر والأهم في نوعها على المستوى الوطني.

 

وقبل فترة، اضطرّت سيّدةٌ دَهَمتها آلام الوضع إلى إنجاب مولودها في الشارع، أمام مستشفى رفض استقبالها من دون دفع مبلغ مالي كبير (تحت الحساب). رغم وجود قرار من رئيس الوزراء قبل أعوام، يُلزِم المستشفيات باستقبال الحالات الطارئة وتقديم الخدمة الطبّية اللازمة. لكن يبدو أن رئيس الحكومة نسي إصدار القرار، فأصدره مرّةً أخرى العام الماضي، من دون أيّ إجراء لضمان الالتزام به، وبالطبع لا مستشفى واحدًا التزم.

 

ثمّة واقعة تتكرّر في مصر كل شتاء، إذ يلقى مواطن أو أكثر مصرعه صعقًا بالكهرباء المتسرّبة من أعمدة الإنارة المكشوفة في الشوارع. ومع كل وفاة، تعلو الأصوات بضرورة صيانة الأعمدة وتأمينها، وتتكرّر المأساة مرّاتٍ ومرّات.

 

قبل عقود، كانت المراحيض العمومية منتشرةً في الطرقات الرئيسة والمناطق التجارية في القاهرة والمدن الكبرى، ثم تلاشت تلك الخدمة العامّة تدريجيًا حتى اختفت. وحتى المؤسّسات الحكومية والعامّة التي يتردّد عليها الآلاف يوميًا، مثل المستشفيات ومحطّات القطارات وإدارات المرور والسجلّ المدني والمحاكم، يستحيل على أيّ مواطن استخدام مراحيضها القذرة.

 

تثبت هذه الأمثلة التدنّي الشديد في قيمة المواطن المصري. وهي ليست رفاهياتٍ، ولا تختلف في أهميتها وخطورتها عن إهمال الرقابة على الأغذية والمشروبات والاستهانة بروح المواطن وببدنه. ولمّا كانت الدولة بحكّامها ومسؤوليها وبيروقراطيتها تعامل المواطنين بذلك الاستخفاف، فلا عجب أن يستحلّ المواطن حقوق الآخر أو يستسهل إزهاق روحه، فتدعس سيّدةٌ طفلةً صغيرةً أزعجت ولدها بكلمة، ويضرب رجل أسرةً كاملةً بسيارته لينهي إشكالًا معهم (بقتلهم). حتى الأطفال؛ مزَّق صغيرٌ زميلًا له بمنشار كهربائي ليتخلّص من إلحاحه على استرداد مبلغ بسيط يدين له به (بضعة دولارات).

 

هذا حالنا الذي وصلنا إليه: من لا يشعر بقيمته لدى الدولة، لا بدّ أن تهون عليه قيمة غيره. وحين لا يكون للمرء وزن ولا قيمة في وطنه، فلا مجال للحديث عن حقوق سياسية أو حتى أساسية، بما فيها الحقّ في الحياة والبقاء، فحقّك يبدأ من أهميتك وينتهي عند قيمتك.