بينما يئن المواطن المصري تحت وطأة فقر مدقع وتضخم يلتهم الأخضر واليابس، يخرج رأس نظام الانقلاب عبدالفتاح السيسي بتصريحات صادمة تطالب الشعب بالانتظار لمائة عام حتى يرى ثمار "التنمية"، في محاولة مكشوفة للهروب من استحقاقات الفشل الذريع الذي قاد البلاد إلى حافة الهاوية.
فمصر اليوم لا تعيش أزمة اقتصادية عابرة، بل تواجه عملية تدمير ممنهج لبنيتها الاجتماعية والاقتصادية، تقودها حكومة انقلابية استبدلت أولويات الشعب بمشاريع استعراضية، ورهنت مستقبل الأجيال القادمة لديون لا طاقة للبلاد بها، لتقدم "واجهات لامعة" تخفي خلفها واقعاً يتصدع، وطبقة متوسطة تتلاشى، وملايين يزحفون قسراً تحت خط الفقر.
ديون لا تأكلها النيران.. وتضخم يطحن العظام
لقد أصبحت الأرقام هي العدو الأول لرواية النظام؛ فكيف لنظام يزعم "بناء المستقبل" أن يرفع الدين الخارجي من 43 مليار دولار في 2013 إلى نحو 165 مليار دولار اليوم؟ وكيف يقفز الدين الداخلي ليتجاوز حاجز الـ 7 تريليونات جنيه؟ هذه الأرقام المفزعة تعني شيئاً واحداً: أن حكومة الانقلاب أدخلت مصر في "دوامة السخرة" لصالح الدائنين، حيث تبتلع فوائد الدين وحدها أكثر من تريليون جنيه سنوياً، متجاوزة ميزانيات الصحة والتعليم مجتمعة.
هذا العبء المالي الثقيل لم يذهب لبناء مصانع أو استصلاح أراضٍ تعود بالنفع المباشر، بل تُرجم إلى تضخم جنوني تجاوز 35%، ووصل في أسعار الغذاء إلى ذروات قاربت 60%، مما حول حياة الأسرة المصرية إلى جحيم يومي. ومع فقدان الجنيه لأكثر من 50% من قيمته، تآكلت المدخرات وتبخرت الدخول، ليقف المواطن عارياً أمام غلاء فاحش لا يرحم، بينما السلطة مشغولة بتجميل صورتها.
"عاصمة الأثرياء".. سفه الإنفاق في زمن الجوع
في مفارقة تستفز مشاعر الملايين، وبينما تعجز الدولة عن توفير السلع الأساسية بأسعار عادلة، تنفق حكومة الانقلاب مئات المليارات على "العاصمة الإدارية الجديدة"، في سابقة تاريخية تقوم فيها الحكومة باستئجار مباني وزاراتها في العاصمة الجديدة وتترك أصولها المملوكة في قلب القاهرة، في إهدار للمال العام يدعو للذهول.
ولم يتوقف السفه عند المباني الحكومية، بل امتد لمشاريع ترفيهية استفزازية؛ من "أكبر ساعة في الشرق الأوسط" إلى ممرات مائية وبحيرات اصطناعية وعجلة ترفيهية عملاقة. هذه المشاريع "الكرتونية" التي تثقل كاهل الميزانية، لا يراها ثلث الشعب المصري القابع تحت خط الفقر إلا دليلاً على انفصال تام للسلطة عن الواقع. إنها سياسة "تجميل القبر"، حيث تُشيّد الأبراج الزجاجية والمدن الذكية بسرعة البرق، بينما تتدهور الخدمات الأساسية، وتُترك المدارس والمستشفيات تعاني الإهمال، في ترتيب مقلوب للأولويات يقدم "اللقطة" على "اللقمة"، والمظهر الخادع على الجوهر التنموي.
"شماعة القرن".. تبرير الفشل وشرعنة العجز
جاءت تصريحات رأس النظام بأن "تطور الدول قد يستغرق 100 عام" لتضع النقاط على الحروف بشأن عقلية الإدارة الحالية. هذا التصريح ليس مجرد زلة لسان، بل هو إعلان رسمي عن الفشل، ومحاولة بائسة لترحيل الأزمات إلى زمن لن يكون فيه المسؤولون الحاليون على قيد الحياة للمحاسبة. إنه منطق ينسف كل وعود "الإنجاز السريع" التي صُدع بها رؤوس المصريين طوال عقد كامل.
إن التذرع بالوقت هو حيلة العاجز؛ فالتجارب الدولية تفضح هذا المنطق؛ فتركيا ورواندا وغيرهما لم تحتاج إلى قرون للنهوض، بل احتاجت إلى إدارة رشيدة ورؤية وطنية وإرادة سياسية حقيقية، وهو ما تفتقده مصر في ظل حكم العسكر. فإذا كانت التنمية تحتاج قرناً، فلماذا تضاعفت الديون أربع مرات في عشر سنوات فقط؟ وإذا كانت الدولة تبني، فلماذا ينهار مستوى معيشة المواطن؟
إن الحقيقة المرة هي أن مصر لا تعاني من قلة الموارد أو ضيق الوقت، بل تعاني من "احتلال داخلي" لأولوياتها ومقدراتها، حيث تُدار البلاد بعقلية "المقاول" لا "رجل الدولة"، وحيث تُرصف الطرق للسيارات الفارهة بينما يسير المواطن حافياً نحو المجهول. وما لم يتم تصحيح هذا المسار بإخراج العسكرة من الاقتصاد ووقف نزيف الديون، فإن الـ 100 عام التي يتحدثون عنها لن تكون سنوات بناء، بل قرناً من التيه والخراب.

