في خطوة تعد الأخطر والأكثر تصعيدًا منذ استحواذ الرئيس قيس سعيّد على السلطة في يوليو 2021، أعلن الاتحاد العام التونسي للشغل (UGTT) النفير العام، مقررًا الدخول في إضراب شامل يوم 21 يناير/كانون الثاني المقبل.

 

هذا القرار لا يمثل مجرد مطالبة نقابية تقليدية بتحسين الأجور، بل هو "صرخة تحذير" سياسية واجتماعية في وجه سلطة تسعى لتكميم الأفواه وتهميش القوى الحية في المجتمع.

 

الاتحاد، الذي يمثل القوة الأكثر تنظيمًا ونفوذًا في تونس بقرابة مليون عضو، يضع نفسه اليوم في خط المواجهة الأول ضد ما يصفه بـ "الانتكاسة الحقوقية" وسياسة الانفراد بالقرار التي ينتهجها قصر قرطاج، معلنًا رفضه القاطع لأن يتحول إلى "شاهد زور" على تفكيك الدولة ومؤسساتها.

 

ثلاثية الغضب: لماذا قرر الاتحاد قلب الطاولة؟

 

لم يأتِ قرار الهيئة الإدارية الوطنية للاتحاد من فراغ، بل جاء ردًا على سياسة "الأذن الصمّاء" التي تنتهجها السلطة. وقد لخص الأمين العام المساعد سامي الطاهري أهداف الإضراب في ثلاثة مطالب جوهرية تمس عصب الحياة السياسية والاجتماعية :

 

  1. فرض الحوار الاجتماعي: إنهاء حالة القطيعة التي يمارسها النظام، حيث كشف الطاهري أن الاتحاد راسل الحكومات المتعاقبة 17 مرة منذ عهد نجلاء بودن دون أن يتلقى ردًا واحدًا، في استخفاف غير مسبوق بأكبر منظمة وطنية في البلاد .
  2. الدفاع عن الحريات النقابية: التصدي لمحاولات السلطة ضرب الحق في التنظم والتفاوض، وهو ما يعتبره الاتحاد خطًا أحمر لا يمكن تجاوزه.
  3. رفض الزيادات الأحادية: الوقوف ضد "العبث التشريعي" في قانون المالية لعام 2026، الذي أقره البرلمان الموالي للرئيس، وتضمن زيادات في الأجور دون تحديد نسبتها أو التشاور مع النقابات، في محاولة مكشوفة لتهميش دور الاتحاد وإظهاره بمظهر العاجز .

 

رسائل "الطبوبي" النارية: السجون لن ترهبنا

 

في تحدٍ صريح للغة التهديد والوعيد التي تميز خطابات الرئيس سعيّد، وجه الأمين العام للاتحاد، نور الدين الطبوبي، رسائل شديدة اللهجة خلال تجمع عمالي حاشد. الطبوبي أكد أن المنظمة الشغيلة "لن ترهبها التهديدات ولا السجون"، متعهدًا بمواصلة النضال حتى استعادة الحقوق المسلوبة .

 

هذا الخطاب يعكس وصول العلاقة بين الاتحاد والرئاسة إلى نقطة اللاعودة. فالاتحاد يرى في سياسات سعيّد محاولة ممنهجة لضرب العمل النقابي المستقل، تمامًا كما فعل مع الأحزاب السياسية، بينما يرى الرئيس في الاتحاد عقبة أمام مشروعه السياسي الذي يرفض أي أجسام وسيطة بين "القائد" و"الشعب".

 

سياق القمع: من تهميش الأحزاب إلى خنق النقابات

 

لا يمكن فصل إضراب 21 يناير عن السياق العام الذي تعيشه تونس منذ قرارات 25 يوليو 2021. فالبلاد تشهد تراجعًا مخيفًا في مؤشرات الحريات، حيث وثقت منظمات حقوقية حملات قمع ممنهجة طالت المعارضين والصحفيين والقضاة .

 

الرئيس سعيّد، الذي بدأ بحل البرلمان والحكم بالمراسيم، انتقل إلى تصفية الحسابات مع القضاء عبر حل المجلس الأعلى للقضاء وعزل عشرات القضاة في 2022، فيما وصفته المعارضة بـ "انقلاب مكتمل الأركان" . واليوم، يبدو أن الدور قد جاء على الاتحاد العام التونسي للشغل، آخر القلاع الحصينة التي ما زالت تمتلك القدرة على الحشد والتعطيل.

 

معركة كسر العظم: من يصرخ أولًا؟

 

يمثل الإضراب العام اختبارًا حقيقيًا لقوة الطرفين. فمن جهة، يراهن الاتحاد على قدرته التاريخية على شل الحركة الاقتصادية والمرافق العمومية لإجبار السلطة على الجلوس إلى طاولة المفاوضات. ومن جهة أخرى، يراهن قيس سعيّد على سياسة "الهروب إلى الأمام" وتخوين الخصوم، مستفيدًا من سيطرته على الأجهزة الأمنية والقضائية.

 

لكن الأخطر في هذه المعادلة هو الوضع الاقتصادي المتردي؛ فالمواطن التونسي، الذي يعاني من تآكل قدرته الشرائية وارتفاع جنوني في الأسعار، قد يجد في دعوة الاتحاد متنفسًا للتعبير عن غضبه، ليس فقط من أجل الأجور، بل رفضًا لواقع سياسي واقتصادي يزداد قتامة يومًا بعد يوم.

 

الخلاصة: إن إضراب 21 يناير ليس مجرد حدث نقابي، بل هو محطة مفصلية في تاريخ تونس الحديث. فإما أن ينجح الاتحاد في كبح جماح "الاستبداد الزاحف" وفرض توازن قوى جديد، أو أن تنجح السلطة في كسر شوكة آخر المنظمات المستقلة، لتدخل تونس رسميًا في نفق الصوت الواحد والرأي الواحد.