في فصل جديد من فصول "الديمقراطية الشكلية" التي يديرها نظام الانقلاب في مصر، أعلنت وزارة الداخلية، الخميس، القبض على 120 من أنصار مرشحين في 19 دائرة انتخابية، وهي الدوائر التي اضطرت الهيئة الوطنية للانتخابات لإلغاء نتائجها سابقاً تحت ضغط الفضائح المدوية للتزوير.
هذه الاعتقالات، التي جاءت متأخرة وبعد "خراب مالطا"، تكشف بوضوح عن حجم العبث بإرادة الناخبين، وتؤكد أن العملية الانتخابية برمتها لم تكن سوى مسرحية هزلية تهدف لإضفاء شرعية زائفة على برلمان "مفصّل" مسبقاً داخل أروقة الأجهزة الأمنية.
"إمبابة" و"الصعيد".. سوق نخاسة الأصوات
لم تكن الاعتقالات في دوائر مثل إمبابة، طهطا، جرجا، وقنا، مجرد إجراء قانوني، بل كانت اعترافاً رسمياً بانهيار نزاهة العملية الانتخابية. التقارير الميدانية رصدت تحول الشوارع المحيطة باللجان إلى "سوق نخاسة" علني، حيث انتشر سماسرة الانتخابات لتوزيع "بونات" شراء الأصوات، بأسعار تراوحت بين 200 و300 جنيه للصوت الواحد.
في دائرة إمبابة، اضطرت المرشحة المستقلة نشوى الديب للانسحاب مبكراً، فاضحة غياب الشفافية. ورغم أن وزارة الداخلية تتشدق الآن بضبط مبالغ مالية وبطاقات دعائية، إلا أن السؤال الذي يطرح نفسه: أين كانت هذه الأجهزة الأمنية خلال الجولة الأولى التي شهدت تزويراً فجاً دفع المواطنين في سوهاج وقنا لقطع الطرق والتجمهر؟
الإجابة تكمن في أن النظام لا يتحرك إلا عندما تخرج الأمور عن السيطرة وتهدد "الصورة العامة" لمسرحيته، أو عندما تتعارض مصالح المرشحين المدعومين أمنياً.
"قائمة من أجل مصر".. واجهة سياسية لأجهزة المخابرات
تظهر الأرقام هيمنة مطلقة للأحزاب "الكرتونية" المصنوعة داخل دهاليز السلطة. حزب "مستقبل وطن"، الذراع السياسية الأبرز للنظام، استحوذ منفرداً على 167 مقعداً، تلاه "حماة الوطن" و"الجبهة الوطنية" و"الشعب الجمهوري". هذه الأحزاب، التي تشكل عماد "قائمة من أجل مصر"، لا تمثل تيارات سياسية حقيقية، بل هي مجرد واجهات لضباط ولواءات سابقين وحاليين، يديرون المشهد لضمان برلمان "موافقون" لا يعارض أي قرار يصدر من قصر الاتحادية.
الأرقام تفضح أيضاً تراجع شرعية هذه الانتخابات؛ فنسبة المشاركة الهزيلة التي انحدرت إلى 16.4% في المرحلة الثانية، والرقم القياسي للأصوات الباطلة (أكثر من 912 ألف صوت في دائرة واحدة)، هما رسالة صمت بليغة من الشعب المصري، مفادها: "نحن لا نثق بكم ولا ببرلمانكم".
القضاء الإداري يصفع "مهندسي الانتخابات"
لم يتوقف الفشل عند حدود العزوف الشعبي وشراء الأصوات، بل امتد إلى الفوضى القانونية. فقد قفز عدد الدوائر المبطلة نتائجها إلى 49 دائرة، بعد أن وجهت المحكمة الإدارية العليا صفعة قوية للهيئة الوطنية للانتخابات، قاضية ببطلان نتائج 30 دائرة إضافية.
هذا التخبط القانوني والعدد الهائل للطعون (281 طعناً في المرحلة الثانية فقط) يعكس حجم العوار الذي شاب الإجراءات، ويؤكد أن "مهندسي الانتخابات" في الأجهزة الأمنية فشلوا حتى في إخراج المسرحية بشكل لائق قانونياً.
برلمان بلا شعب
ما يجري في مصر ليس انتخابات، بل عملية "إعادة تدوير" لنظام الحكم الشمولي. النظام يستخدم المال السياسي، والاعتقالات الانتقائية، والهندسة الأمنية للدوائر، لإنتاج مجلس نواب منزوع الدسم، مهمته الوحيدة التصفيق للزعيم وتمرير القوانين التي تزيد من إفقار المواطن وتقييد حريته. أما الشعب المصري، فقد قال كلمته بمقاطعته لهذه المهزلة، وباحتجاجاته التي أجبرت النظام – ولو شكلياً – على الاعتراف ببعض التزوير وإعادة التصويت.

