بقلم/ عادل الأنصاري
أثار الإعلان الأخير عن تصنيف جماعة الإخوان المسلمون منظمة إرهابية الحديث مجددا عن منهج التغيير السلمي الذي تعلنه وتتبناه الجماعة ، وكان علامة بارزة لممارساتها قبل وأثناء فترة الربيع العربي وما تلا ذلك في مرحلة الانقلاب العسكري ، بما كان محل نقد من عدد من قوى التغيير في المنطقة.
ومن ثم كان الحديث عن المفارقة الواضحة بين انتهاج الجماعة أسلوب الإصلاح والتغيير السلمي لمنظومة الفساد والاستبداد التي تخيم على الواقع السياسي وأنظمة الحكم ، رغم ما يقع عليها من تبعات ، وبين الحديث المتواتر لدى الأنظمة العربية عن اتهام الجماعة التي تمارس العمل السلمي بالإرهاب ، إلى أن دخلت الولايات المتحدة منذ سنوات في هذا المضمار على استحياء قبل أن تحسم أمرها في الولوج إليه بشكل متفاعل من خلال إعلان الرئيس الأمريكي ترامب تصنيف الجماعة في بعض فروعها ومن بينها مصر منظمة إرهابية.
ولعل هذا ما يثير كثيرا من التساؤلات عن هذه الحالة المتناقضة ، فكيف لمن يعلن ويؤكد قولا وفعلا أنه ينتهج مسارا سلميا إصلاحيا ، تحوطه الاتهامات كلما أكد هذا المسار ، وتشتد عليه الضغوطات كلما برهن على هذه الحقيقة، رغم أن الوقائع تؤكد عكس ذلك ، بل ربما تتوفر قناعات لدى صناع القرار في المنطقة العربية والغربية بصدق هذا التوجه لدى أصحابه.
قراءة في التباينات
والقراءة الحقيقية لهذا التناقض الواضح والاختلاف البين تبدأ من رؤية الولايات المتحدة الاستراتيجية للتعامل مع المنطقة العربية والإسلامية والتي أطلق عليها مصطلح " الشرق الأوسط" وما ارتبط به من الحديث المبكر عما أسمته كونداليزا رايس وزيرة الخارجية الأمريكية الأسبق بـ " الفوضى الخلاقة أو الفوضى البناءة " ، وهو مصطلح يعبر عن رؤية استراتيجية أمريكية في إعادة تفكيك وتركيب الأنظمة في المنطقة.
والمصطلح ظهر إلى العلن عقب الغزو الأمريكي للعراق عام 2003 ، ولكنه كان متداولا في في النقاشات داخل أروقة الإدارة الأمريكية منذ نهاية التسعينيات من القرن الماضي ، ويستهدف استثمار الصراعات الداخلية والتوترات الطائفية والسياسية داخل الدول العربية والإسلامية لإعادة تشكيل الأنظمة السياسية بما يجعلها أكثر انحيازا للسياسات الأمريكية ، ولكن في ظل حالة من القبول الشعبي والرضا الجماهيري الذي افتقدته الأنظمة الاستبدادية في المنطقة خلال العقود الماضية.
والفوضى البناءة أو الخلاقة ربما لا تكون هدفا لدى مطلقيها بشكل نهائي ، ولكنها وسيلة لإعادة هندسة المنطقة وإحداث التغييرات الدراماتيكية فيها بما يحقق تلك المعادلة التي تجمع بين الحفاظ على الكيان الصهيوني وتحقيق مزيد من المصالح الأمريكية في المنطقة من ناحية ، وفي ذات الوقت انطلاق الأنظمة المستحدثة من قاعدة شعبية وجماهيرية تضمن استمرار هذا التوجه على المسار الاستراتيجي من ناحية أخرى ، بما يحصن المصالح الأمريكية وفي مقدمتها الحفاظ شعبيا ورسميا على الكيان الصهيوني.
وترتكز هذه الاستراتيجية على الوصول إلى النتائج عبر الحروب الأهلية والفوضى ، وليس من خلال التطوير التدريجي الإصلاحي ، وربما نصل هنا إلى نقطة يمكنها أن تمثل حلا للغز الذي طرحنا أبعاده بشأن الأسباب وراء استهداف أصحاب النهج السلمي الإصلاحي.
فالسلمية هنا تعني بشكل واضح ومحدد إجهاض هذا المشروع الذي يسعى للتغيير وإعادة هندسة الدول عبر الفوضى والحروب الأهلية ، باعتبار أن هذا الطريق هو الأنسب لدى مصممي هذا المصطلح وصانعي هذه الاستراتيجية لتحقيق مزيد من مصالحهم وانحيازات الأنظمة الحاكمة لهم ولكن في إطار حالة من الإجماع الشعبي.
ولعل الحقائق التي وقعت وتقع على الأرض في المنطقة تعرب بشكل واضح عما أعلنه صناع هذه الاستراتيجية منذ وقت مبكر من بدايات القرن الجديد ، حيث كانت البداية في صناعة حالة من الفوضى في العراق من خلال غزوه ، بل - وفي وقت مبكر عن الغزو - من خلال إغراء الرئيس العراقي السابق صدام حسين بغزو الكويت لمحاولة إيجاد مبرر لتسعير الحرب ضد العراق ، وهندسة الصراع فيها.
وقد استفادت هذه الاستراتيجية بشكل كبير من بذور الطائفية داخل العراق بين السنة والشيعة والتي كانت من قبل تمثل خلافات سائغة يتم تدوالها وإدارتها شعبيا في ظل حالة من الاندماج والتفاهم العشائري والوطني داخل العراق.
ثم كانت المرحلة التالية في محاولة صناعة حروب أهلية في عدد من بلدان المنطقة ، وكان الدور مستحقا على سوريا ، كردة فعل على رغبة الشعب السوري المشروعة في استرداد حقه في الحرية واختيار من يحكمه ، حيث تم الإيعاز إلى قوى إقليمية لدعم عمل مسلح في سوريا ، عقب استدعاء بشار لقوى وقواعد أجنبية داخل سوريا لمواجهة شعبه ، فكانت الأوضاع مهيئة لحرب داخلية طويلة الأمد.
والأمر تكرر في اليمن وليبيا حيث تضع الاستراتيجية الأمريكية أمام الشعوب خيارات محدودة ، وهي إما أن تبقى تحت أسر الأنظمة المستبدة ويتم حرمان الشعوب من حقها في تقرير مصيرها واختيار حكامها كحق مشروع تسعى له كل القوى الحرة داخل أوطاننا العربية والإسلامية ، وإما يكون البديل هو الحرب الأهلية أو الصراعات الداخلية.
وفي مصر كانت المحاولات مستمرة لدخولها إلى مرحلة الحرب الأهلية من خلال إحداث فوضى تسمح بصراعات داخلية تنسجم مع الاستراتيجية الأمريكية وإحداث الفوضى الخلاقة ، إلا أن الوضع في مصر كان مختلفا حيث حاولت جماعة الإخوان المسلمون - باعتبارها القوة المؤثرة في الثورة المصرية - ، نحت طريق ثالث يخول للشعب المصري أن يحوز حريته ويحقق رغبته في اختيار حكامه من خلال ثورة سلمية تظل حاضرة جنبا لجنب مع العمل الإصلاحي المتدرج ، فتسعى لتغيير نظام الحكم وعودته للشعب ، دون الدخول في صدامات دامية تهدم مؤسسات الدولة أو تحدث نوعا من الفوضى والاحتراب الأهلي.
وبذلك فإن السلمية إذا كانت تعني لدى حركة إسلامية مثل جماعة الإخوان المسلمين رغبتها في التغيير وإصلاح الحكم والقضاء على الفساد والاستبداد دون التفريط في مقومات الوطن ومقدرات الدولة مع الحفاظ على الجبهة الداخلية وتقويتها ، ومنع محاولات تفكيكها وتفتيتها ، فإن السلمية تعني لدى صناع "الفوضى الخلاقة" تفريغا لهذه الاستراتيجية من مضمونها وعرقلة لمسيرتها وفشلا لخطتها ، وهو ما يتم مواجهته اليوم بمحاولة اتهام رواد السلمية ورفض الاحتراب الأهلي بالإرهاب وفقا للمفهوم الأمريكي.

