في خطوة تكشف حجم الوصاية المذلة التي يفرضها صندوق النقد الدولي على القرار السيادي المصري، أجبر النظام شركة "مصر للطيران" على التخلي عن حلمها بتحديث أسطولها بأموال وطنية، ودفعها دفعًا إلى أحضان شركات التأجير الدولية، في صفقة مذلة تعتبر بداية "تفليسة مقنعة" للناقل الوطني.

 

فرفض وزارة المالية المفاجئ منح الشركة الضمانات السيادية اللازمة لشراء 16 طائرة جديدة، لم يكن قرارًا اقتصاديًا رشيدًا، بل كان "إملاءً مباشرًا" من بعثة الصندوق التي وصلت القاهرة، لتضمن تجريد مصر من آخر أصولها المربحة قبل عرضها في سوق "البيع بالقطعة" للمستثمرين الخليجيين والأجانب.

 

من "المالك" إلى "المستأجر": قصة إذعان "مصر للطيران"

 

المشهد عبثي وصادم: الشركة التي كانت تتباهى بتوسيع أسطولها، تجد نفسها مضطرة لتوقيع اتفاقية "بيع وإعادة استئجار" مع شركة BOC Aviation السنغافورية للحصول على 11 طائرة من طراز A350-900، بعد أن سحبت حكومة الانقلاب "الضمانة السيادية" من تحت أقدامها. هذا التحول من "شراء وتملك" إلى "إيجار مذل" هو جوهر برنامج "الإصلاح الاقتصادي" الذي يطبقه النظام؛ حيث يتم تجريد الشركات الوطنية من أصولها، وتحويلها إلى مجرد "زبون" لدى الشركات الأجنبية، مما يضمن استنزاف العملة الصعبة في صورة إيجارات دائمة، بدلاً من بناء أصول تدر دخلاً للدولة.

 

المفارقة أن "مصر للطيران" كانت قد بدأت بالفعل في استلام 5 طائرات من الصفقة بقروض مضمونة من الدولة، قبل أن يأتي "فرمان" صندوق النقد ليوقف كل شيء، ويضع الشركة في موقف مالي حرج، أجبرها على بيع 12 طائرة أخرى من طراز A220-300 (بعضها لم يستخدم بعد بسبب عيوب فنية) في محاولة يائسة لتدبير سيولة مالية

 

الصندوق يحكم.. والشركات الوطنية هي الضحية

 

ما حدث مع "مصر للطيران" ليس استثناءً، بل هو "بروفة" لما سيحدث مع كل الشركات والمشروعات القومية التي تعتمد على ضمانات الدولة. فبعثة الصندوق جاءت ومعها قائمة شروط واضحة لإنقاذ النظام من جحيم ديونه التي تجاوزت 162 مليار دولار، وعلى رأس هذه الشروط:

 

•  وقف الضمانات السيادية: منع الحكومة من ضمان أي قروض جديدة للشركات العامة، لوضع "سقف" للدين العام.


•  إعادة هيكلة قسرية: إجبار الشركات الحكومية على خطط إعادة هيكلة تهدف في النهاية إلى بيعها.


•  فتح الباب للخواص: تسليم قطاعات استراتيجية مثل النقل والطيران للقطاع الخاص والمستثمرين الخليجيين.


هذه الشروط تعني ببساطة أن "يد الدولة" تُرفع عن اقتصادها، وتُسلّم مفاتيحه لكبار الدائنين والمستثمرين الأجانب، الذين لن يترددوا في امتصاص ما تبقى من خيرات البلد.

 

"القطار السريع" و"المونوريل" في مرمى النيران

 

سيكون قطاع النقل هو الضحية الأكبر لهذه السياسة. فالمشروعات الضخمة التي تباهى بها النظام (القطار السريع، المونوريل، القطار الكهربائي)، والتي تصل تكلفتها إلى 25 مليار يورو، تعتمد كليًا على ضمانات الدولة. وبمجرد وقف هذه الضمانات، ستواجه هذه المشروعات مصيرًا مظلمًا:

 

•  توقف فوري: سيتم إبطاء أو تجميد توقيع أي عقود جديدة، مما يعني تأخيرًا لسنوات طويلة.

 

•  زيادة الأسعار على المواطنين: ستضطر الحكومة لرفع تعرفة النقل بشكل جنوني لتغطية التكاليف التشغيلية، بعد أن تخلت عن دورها في دعم المرافق العامة.


•  الدخول الأجنبي: سيتم فتح الباب على مصراعيه أمام صناديق الاستثمار الأجنبية والخليجية للدخول كشركاء، مما يعني أن عوائد هذه المشروعات ستذهب للخارج، ويبقى الدين على كاهل المصريين.

 

الخلاصة: بيع "السيادة" لسداد فواتير "الوهم"

 

إن ما يحدث ليس "انضباطًا ماليًا" كما يروج إعلام النظام، بل هو عملية "تصفية" منظمة لأصول الدولة تحت إشراف صندوق النقد الدولي. النظام الذي أغرق البلاد في ديون فلكية لتمويل مشروعات "بروباجندا" عديمة الجدوى، يقوم الآن بسداد فواتير فشله من خلال بيع "الشركة الوطنية للطيران" ورهن "شرايين النقل" في البلاد. قرار حرمان "مصر للطيران" من حقها في التطور هو خيانة للأمن الاقتصادي، ودليل جديد على أن هذا النظام مستعد لبيع "الوطن" نفسه مقابل الحصول على "شهادة حسن سير وسلوك" من أسياده في واشنطن.