لم تكن الجولة الثانية من الانتخابات البرلمانية مجرد سباق سياسي روتيني، بل تحولت إلى ساحة حرب مفتوحة كشفت عن الوجه الحقيقي والقبيح لإدارة المشهد السياسي في مصر. فبينما يُسدل الستار على ما يُسمى بـ"العرس الديمقراطي"، تتكشف فصول مأساوية من القمع الممنهج الذي لم يكتفِ بإقصاء المنافسين عبر التزوير والمال السياسي، بل وصل إلى حد الانحطاط الأخلاقي باستهداف عائلات المرشحين، في رسالة ترهيب واضحة من السلطة وأذرعها الحزبية لكل من تسول له نفسه تحدي "مرشحي النظام".
في دائرة شبرا وروض الفرج، وقفت المرشحة عن حزب الإصلاح والنهضة، مونيكا مجدي، ليس فقط لتواجه منافسًا من حزب "مستقبل وطن"، بل لتواجه آلة قمعية متكاملة سخرت "البلطجة النسائية" والغطاء الأمني لسحق إرادتها، في مشهد يعيد للأذهان أسوأ ممارسات العصور البائدة، حيث يصبح "الكرسي" أهم من الشرف، و"الحصانة" أهم من القانون.
شبرا وروض الفرج: عندما تتحول اللجان إلى ثكنات لـ"مستقبل وطن"
المشهد في دائرة شبرا وروض الفرج وبولاق أبو العلا لم يكن تنافسًا شريفًا، بل كان استعراضًا للقوة الغاشمة. مونيكا مجدي، التي وجدت نفسها تحارب طواحين الهواء، لم تصرخ بسبب خسارة مقعد، بل صرخت من "الفُجر في الخصومة". اتهاماتها المباشرة لمنافسها محمد راضي، مرشح حزب الأغلبية المدعوم، لم تكن مجرد كلمات عابرة، بل وثيقة إدانة لنظام سمح بتحويل المدارس ومحيط اللجان إلى أوكار للبلطجة.
"حقهم مش هسيبه".. عبارة خرجت من حنجرة مرشحة لم تُهزم بالصناديق، بل هُزمت بـ"الترويع". ففي سابقة خطيرة، لم يكتفِ أنصار مرشح السلطة بالتلاعب بالأصوات، بل لجأوا -وفقًا لشهادات مونيكا الموثقة بالفيديو- إلى استخدام "بلطجية ستات" لافتعال المشاجرات، في تكتيك أمني قذر يهدف لجر المرشحة إلى قسم الشرطة بدلاً من مراقبة الصناديق. والمفارقة المؤلمة هنا ليست في البلطجة فحسب، بل في استجابة الشرطة التي ألقت القبض على الضحية (والدة المرشحة وشقيقتها) وتركت الجاني يحتفل بنصره المزعوم، وكأن هناك تعليمات عليا بـ"تكدير" كل من يخرج عن النص.
أرقام وهمية وانتصار "المال السياسي": صناعة الفوز بالقوة
ما كشفته مونيكا مجدي عن "الأرقام الوهمية" يضرب في مقتل شرعية العملية الانتخابية برمتها. حديثها عن فوز منافسها بأرقام لم تدخل اللجان أصلاً يفتح الباب واسعًا للشكيك في النزاهة الإجرائية للانتخابات. "أنت بتحتفل على كتافنا.. بانتصار مزور"، هكذا واجهت مونيكا منافسها، فاضحةً الآلية التي يُدار بها المشهد: مال سياسي يشتري الذمم، وبلطجة تحمي المزورين، وأجهزة تغض الطرف، بل وتشارك في التنكيل بالمعارضين.
إن الاحتفالات التي أقامها أنصار "مستقبل وطن" لم تكن احتفالاً بإرادة شعبية، بل كانت رقصًا على جثث القوانين واللوائح. فبأي منطق يحتفل مرشح بينما منافسته تقف أمام النيابة تحاول إخراج والدتها وشقيقتها من الحبس؟ هذا المشهد يختزل عقلية النظام الحاكم الذي يرى في الانتخابات مجرد إجراء شكلي لتثبيت أركانه، ولا يتردد في دهس أي قيم اجتماعية أو أخلاقية لتحقيق "النسبة المطلوبة".
من القاهرة للسويس: "تأديب" المعارضين عبر بوابة العائلات
ما حدث مع عائلة مونيكا مجدي لم يكن حدثًا فرديًا أو عشوائيًا، بل يبدو أنه "دليل عمل معتمد من الأجهزة الأمنية في التعامل مع المعارضة في هذه الجولة. ففي التوقيت ذاته، كان المنسق العام للحركة المدنية والمرشح البرلماني طلعت خليل يذوق من الكأس نفسه في السويس، حيث تم اعتقاله هو وشقيقته، في نهج مفضوح لسياسة "العقاب الجماعي".
إن استهداف النساء والشقيقات والأمهات يمثل منحدرًا خطيرًا في الخصومة السياسية في مصر. فالسلطة لم تعد تكتفي بمحاصرة المرشح سياسيًا، بل تنقل المعركة إلى داخل منزله، تبتزه بعائلته، وتجبره على دفع فواتير باهظة -مادية ونفسية- لمجرد أنه قرر المشاركة في مسرحية لم يُكتب له فيها دور "الكومبارس". خروج طلعت خليل وشقيقته بكفالة 10 آلاف جنيه لكل منهما، وبقاء عائلة مونيكا ساعات طويلة في النيابة، رسالة واضحة من النظام: "لا حصانة لأحد، والجميع تحت المقصلة".
تواطؤ المؤسسات: الخصم والحكم في آن واحد
بيان حزب الإصلاح والنهضة، رغم لغته الدبلوماسية، حمل بين طياته إقرارًا بالعجز أمام تغول الحزب الحاكم. الحديث عن "انتهاك صريح للقانون والقيم الأخلاقية" هو توصيف مهذب لكارثة سياسية. فالنظام الذي يسمح بضرب أنصار المرشحين وسرقة هواتفهم وتلفيق القضايا لهم، هو نظام لا يؤمن بالديمقراطية إلا كديكور خارجي.
لقد أثبتت هذه الوقائع أن الهيئة الوطنية للانتخابات والأجهزة المعنية بتقويم العملية الانتخابية تقف موقف المتفرج -أو المتواطئ- أمام تغول حزب "مستقبل وطن". فعندما تتحدث مرشحة عن "توصية في النيابة لتكدير أهلها"، فنحن لسنا أمام مخالفة انتخابية، بل أمام فساد مؤسسي ينخر في عظام دولة القانون، حيث تُسخر مؤسسات الدولة لخدمة فصيل واحد، ويُعامل الباقون كأعداء للوطن لمجرد أنهم نافسوا "مرشح السلطة".
ختامًا، إن صرخة مونيكا مجدي، وقبلها طلعت خليل، هي نعي رسمي لما تبقى من أمل في حياة سياسية حقيقية في مصر. ما جرى في شبرا وروض الفرج ليس مجرد خسارة مرشح، بل هو إعلان فوز "دولة البلطجة" وهزيمة ساحقة لدولة القانون.

