بينما يكتوي المصريون من موجة غلاء جديدة بسبب رفع الدعم وزيادة الأسعار، تنشغل الحكومة بتشييد "معلم سياحي" جديد يحاكي "بيغ بن" في الصحراء، مثيرة تساؤلات حول جدوى الإنفاق في زمن التقشف.

 

وفي توقيت يضبط فيه ملايين المصريين حياتهم على وقع إجراءات اقتصادية قاسية، اختارت الحكومة المصرية ضبط توقيت العاصمة الإدارية الجديدة عبر مشروع جديد أعلن عنه الفريق كامل الوزير، نائب رئيس الوزراء ووزير الصناعة والنقل، يتمثل في تشييد "ساعة ضخمة" بارتفاع 600 متر، لتكون "معلمًا سياحيًا بارزًا" يُرى من أنحاء العاصمة الإدارية وحتى أطراف القاهرة.

 

الإعلان الذي جاء مفاجئًا، لم يمر مرور الكرام في الأوساط السياسية والشعبية، بل أعاد الجدل القديم المتجدد حول "فقه الأولويات" في دولة تكافح لسداد أقساط ديونها الخارجية، وتطالب مواطنيها بالتحمل والصبر. فالمفارقة بدت صارخة: حكومة تتحدث بلغة التقشف و"ترشيد الدعم" صباحًا، وتعلن عن مشاريع "أيقونية" بمليارات الجنيهات مساءً.

 

مفارقة "التقشف" و"الأيقونة"

 

لم يكن إعلان الوزير عن "الساعة العملاقة" -التي يُراد لها أن تنافس ساعة مكة وتدخل موسوعة "غينيس"- سوى حلقة جديدة في سلسلة مشاريع العاصمة الإدارية التي تثير انقسامًا حادًا. فالكاتب والروائي عمار علي حسن التقط هذا التناقض في تعليقه المقتضب، مستدعيًا الموروث الشعبي المصري: "اللي معاه قرش محيره يجيب حمام ويطيره"، في إشارة دلالية عميقة إلى حالة "الوفرة الانتقائية" التي تبدو عليها ميزانية الدولة حين يتعلق الأمر بالمشاريع الإنشائية الكبرى، مقابل "العجز الدائم" حين يتعلق الأمر ببنود الدعم والخدمات العامة.

 

 

 

هذه الرؤية عززتها منصة "صدى مصر"، التي وضعت تصريح الوزير في كفة، وقرارات رفع أسعار الوقود وإلغاء الدعم في الكفة الأخرى، متسائلة: "كيف نقبل زيادة الأعباء على المواطن بحجة الديون، وفي الوقت ذاته نُنفق المليارات على ساعة عملاقة وبرج بـ 3 مليارات دولار؟". التساؤل هنا يتجاوز الجدوى الاقتصادية ليصل إلى "القطيعة الشعورية" بين صانع القرار والشارع، إذ يبدو وكأن الطرفين يعيشان في "عالمين متوازيين" لا يلتقيان.

 

 

 

البحث عن "اللقطة" في زمن الأزمة

 

الحديث عن الساعة أعاد إلى الأذهان الجدل الذي صاحب بناء "البرج الأيقوني". الصحفي علي بكري طرح تساؤلًا مشروعًا حول ما إذا كانت المشاريع السابقة قد فشلت في تحقيق الجذب السياحي والاستثماري المأمول، مما استدعى البحث عن "أيقونة" جديدة. يقول بكري: "البرج الأيقوني أبو 3 مليار دولار قصر معاهم في إيه؟"، مشيرًا إلى حالة من "الاستسهال" في التعامل مع الموارد العامة، ومحاولة دائمة لصناعة إنجازات بصرية ضخمة قد لا تنعكس بالضرورة على الواقع المعيشي للمواطن.

 

 

 

من جانبه، ذهب الدكتور مصطفى جاويش إلى نقد أكثر حدة، معتبرًا أن السعي لدخول موسوعة "غينيس" عبر هذه الإنشاءات يعكس خللًا في الرؤية الاستراتيجية للدولة، واصفًا الأمر بمرارة بأنه يستحق دخول "موسوعة للأغبياء"، في إشارة إلى غياب العقلانية الاقتصادية عن مثل هذه القرارات.

 

 

 

 

أولويات غائبة

 

على الأرض، تبدو الصورة أكثر تعقيدًا. الناشطة رانيا الخطيب وضعت يدها على جوهر الأزمة: "هل الدولة فقيرة ومأزومة وتستوجب التقشف، أم أنها غنية وقادرة على بناء أكبر المدن والساعات؟". هذا التناقض في الخطاب الرسمي خلق حالة من عدم اليقين لدى المواطن، الذي لم يعد يعرف "من نحن بالضبط؟".

 

 

 

 

بينما رأى السياسي أحمد لطفي أن المشروع يأتي في سياق "منفصل عن الواقع"، متسائلاً عن المستفيد الحقيقي من هذه الساعة في مدينة لا تزال تبحث عن سكانها، قائلاً: "ساعة إيه وزفت إيه.. هو فيه حد هناك!".

 

 

 

في المحصلة، لا يبدو مشروع "الساعة" مجرد هيكل خرساني جديد، بل هو "رمز" لمرحلة سياسية كاملة، تعلي من شأن الحجر على حساب البشر، وتستثمر في "الصورة" أكثر من استثمارها في "المضمون"، تاركة المواطن المصري يضبط ساعته الخاصة على مواعيد سداد الأقساط، بينما تضبط الحكومة ساعتها على توقيت "العاصمة" الذي يسبق الواقع بسنوات ضوئية.