في خطوة بدت أشبه بمحاولة لالتقاط الأنفاس بعد مشهد انتخابي بالغ الارتباك، أعلنت الهيئة الوطنية للانتخابات إلغاء النتائج في 19 دائرة وإعادة التصويت فيها مطلع ديسمبر المقبل.

 

خطوة جاءت على عجل، كأنما أرادت الهيئة أن تبدو في ثوب الحَكَم النزيه بعد أن ظلّت لأيام هدفًا لسيول من الطعون، وشلالات من الفيديوهات التي وثّقت كل ما يمكن أن يحدث في سباق انتخابي إلا النزاهة. ورغم أن القرار بدا للبعض مؤشرًا على إرادة إصلاح، إلا أن الواقع يكشف أن جذور الأزمة أعمق بكثير من إعادة فتح الصناديق في بضع دوائر.

 

فالمشهد الانتخابي يبدو كمن يصرّ على ترميم سقف متهالك بينما الجدران نفسها آيلة للسقوط. فبعد بيان رئاسي يطالب الهيئة بأن تتخذ "ما يرضي الله"، اندفعت الأصوات الإعلامية والسياسية تطالب بإعادة كاملة للمسار، بينما يتناسى الجميع أن أصل الداء ليس في صناديقٍ ضُبطت متلبّسة بالعيوب، بل في قانون انتخابي صُمّم ليضمن فوز طرف واحد، وتحويل بقية القوى السياسية إلى مجرد إكسسوارات تجميلية في ديكور سياسي لا يخدع أحدًا.

 

إعادة انتخابات.. أم إعادة تدوير للمشهد؟

 

قبل أيام، أعلنت الهيئة الوطنية للانتخابات إلغاء نتائج 19 دائرة موزعة على الجيزة والفيوم وأسيوط وسوهاج وقنا والإسكندرية والبحيرة، على أن تُعاد الانتخابات في 3 و4 ديسمبر المقبل. وجاء الإعلان مباشرة بعد بيان قائد الانقلاب عبد الفتاح السيسي الذي أشار إلى انتهاكات وقعت خلال عملية التصويت، مطالبًا الهيئة بالتدقيق واتخاذ القرارات التي "ترضي الله".

 

لم تمر ساعات حتى امتلأت الساحة الإعلامية بدعوات صاخبة لإلغاء الانتخابات برمتها، كان أبرزها نداء الإعلامي عمرو أديب بأن لدى الهيئة "فرصة تاريخية لتصحيح المسار". وتزامنت هذه الدعوة مع موقف سياسي أكثر صراحة من مدحت الزاهد، رئيس حزب التحالف الشعبي الاشتراكي، الذي أكد أن حزبه يدرس المطالبة بإعادة النظر في العملية الانتخابية كاملة، مشيرًا إلى أن الفساد يبدأ من القانون نفسه وتقسيم الدوائر، ولا ينتهي بتدخلات الأجهزة الأمنية التي لا تُخفي تفضيلاتها.

 

قانون انتخابي معيب.. ومشهد سياسي مختل

 

لا يختلف اثنان على أن ما شهدته الانتخابات من رشاوى ودعاية داخل اللجان ومشادات بين المرشحين، يعكس انحدارًا مقلقًا في إدارة العملية الانتخابية. ومع ذلك، فإن جوهر الأزمة ليس في هذه المظاهر وحدها، بل في القانون الانتخابي الذي يرتكز على نظام "القائمة المطلقة". هذا النظام العبقري يضمن ببساطة أن تحصل القائمة الفائزة بنسبة 51% على 100% من المقاعد، بينما يذهب صوت نصف المجتمع تقريبًا إلى العدم.

 

وهكذا يصبح مجرد التفكير في مواجهة "القائمة الأمنية" ضربًا من العبث، لأن الخسارة مؤكدة مسبقًا. ومن هنا تحوّلت الأحزاب من كيانات سياسية إلى مجرد قطع ديكور تتزيّن بها القوائم الرسمية، وتحصل على مقاعد معدودة بوحي من الأجهزة لا بإرادة الناخبين.

 

برلمان بلون واحد.. وتمثيل متعدّد للأجهزة الأمنية فقط

 

لقد أنتج نظام القائمة المطلقة برلمانًا لا يعكس تعددية مجتمع يتجاوز 120 مليون مواطن، بل يعكس تعددية أخرى من نوع خاص: تعددية أجهزة الأمن. فبحسب التوزيع المعلن، يحصد حزب "مستقبل وطن" المرتبط بالأمن الوطني 121 مقعدًا، ويليه "حماة الوطن" المقرب من المخابرات الحربية بـ54 مقعدًا، ثم الجبهة الوطنية المرتبطة بالمخابرات العامة بـ43.

 

تمامًا كما لو أن البرلمان تحوّل إلى غرفة مشورة كبرى، يجلس فيها ممثلو الأجهزة المختلفة لتقاسم المقاعد، بينما يتفرج المجتمع من وراء زجاجٍ معتم. وهكذا تتشكل تحالفات مصطنعة، وتُشترى الولاءات، ويُعاد تدوير نفس الوجوه في حلبة سياسية لا يدخلها إلا من يحمل توصية أمنية.

 

19 دائرة فقط؟!.. كأن الأزمة محصورة في رقم

 

قرار إعادة الانتخابات في 19 دائرة لا يعكس بالضرورة حجم الانتهاكات بقدر ما يعكس محاولة سياسية لاحتواء مشهدٍ اتسعت رقعته. فالتدخلات الأمنية لم تكن مجرد سلوكيات فردية، بل رغبة معلنة في السيطرة على المقاعد الفردية أيضًا، وليس فقط مقاعد القائمة. وقد بدأت هذه الرغبة قبل الاقتراع نفسه عبر إقصاء مرشحين معارضين بحجج قانونية مفصّلة خصيصًا لإبعادهم، مثل محمد أبو الديار وهيثم الحريري وآخرين.

 

ولأن التجربة علّمت المصريين أن العبث بإرادة الناخبين طريق قصير نحو أزمات أعمق، فقد تزايدت القناعة بأن البرلمان القادم لا يمثلهم. وربما لهذا شعر السيسي بأن المشهد السياسي بات معتمًا بشكل يهدد استقرار السلطة نفسها، في تكرار غير مطمئن لسيناريو 2010.

 

إعادة الانتخابات.. أم إعادة فتح باب المستقبل؟

 

إن إعادة الانتخابات، مهما توسّعت، ستظل بلا أثر ما لم يُمسّ أصل الأزمة: القانون الانتخابي المعيب الذي عطّل التطور السياسي وأنتج برلمانًا أحادي اللون. وحده تعديل هذا القانون وإتاحة نظام انتخابي عادل، قادران على منح الدولة متنفسًا سياسيًا تحتاجه بشدة، وفتح صفحة جديدة بين الحكم والمجتمع، بعيدًا عن قبضة أمنية ضيّقت الخناق حتى بات النظام نفسه بحاجة إلى متنفس.

 

فإعادة التصويت خطوة شكلية؛ لكن إعادة الطريق هي الخطوة التي تنتظرها البلاد حقًا.