بينما يتصاعد التوتر على الحدود بين مصر وقطاع غزة وتستمر الاعتداءات الإسرائيلية على الفلسطينيين، يقف نظام عبد الفتاح السيسي موقف المتفرج المتواطئ، متذرعًا بـ“الحكمة وضبط النفس”، في وقت باتت فيه “العلاقة الأمنية” مع الاحتلال الإسرائيلي أهم من السيادة الوطنية أو الكرامة المصرية. ومع كل خطوة إسرائيلية استفزازية، يواصل النظام المصري دفن رأسه في الرمال، متجاهلًا الغضب الشعبي والعربي، ومفضّلًا الرضا الإسرائيلي والأمريكي على المصلحة الوطنية.
انتهاك صريح للسيادة المصرية وصمت رسمي فاضح
قرار وزير الأمن الإسرائيلي يسرائيل كاتس باعتبار المنطقة الحدودية في رفح الفلسطينية “منطقة عسكرية مغلقة” شكّل انتهاكًا مباشرًا لمعاهدة السلام وللسيادة المصرية، لكن القاهرة اختارت كعادتها الصمت. مصدر مصري مطّلع اكتفى بالقول إن بلاده “تتعامل بحكمة”، أي أنها ترفض الرد أو التصعيد. تلك “الحكمة” ليست سوى غطاء للعجز والانصياع أمام الاحتلال، الذي لم يعد يكتفي بانتهاك الحدود الفلسطينية بل يمد نفوذه إلى تخوم الأراضي المصرية دون ردّ يليق بمقام الدولة.
بل إن سلطات الانقلاب — كما يؤكد المصدر — “ترفض الانجرار إلى الاستفزازات الإسرائيلية”، في تبرير مضحك يعكس هشاشة القرار السياسي في القاهرة، حيث تُقدَّم السيادة على مذبح “التنسيق الأمني” مع تل أبيب، وكأن مصر لم تعد دولة ذات كرامة بل مجرد ذراع ميداني للاحتلال في المنطقة.
من شريك في القمع إلى شريك في الاحتلال
المؤشرات كافة تؤكد أن التعاون الأمني بين القاهرة وتل أبيب لم يتوقف يوماً، بل تصاعد مع كل جولة عنف في غزة. الفرق الفنية والاستخباراتية المصرية — بحسب مصادر ميدانية — تواصل اجتماعاتها اليومية مع نظرائها الإسرائيليين “خاصة في الملفات الحساسة داخل القطاع”. بل وصلت درجة التواطؤ إلى حدّ مشاركة مصر في جهود “انتشال جثث الأسرى الإسرائيليين من داخل غزة”، في مشهد يلخّص سقوط الدور العربي وانحراف البوصلة القومية.
بينما تُغلق القاهرة معبر رفح أمام الجرحى والمساعدات الإنسانية، تفتح في المقابل قنواتها مع جيش الاحتلال لتبادل المعلومات وضبط إيقاع “التهدئة”، وكأن الأولوية هي أمن إسرائيل لا حياة المدنيين. هذا هو المعنى الحقيقي لسياسة السيسي منذ 2013: أمن تل أبيب فوق كل اعتبار، وواشنطن هي المرجعية العليا للقرار المصري.
علاقة مقدسة بالاحتلال ودعم غربي مضمون
لم يكن هذا الانصياع وليد اللحظة. فمنذ انقلاب يوليو 2013، سعى السيسي إلى ترسيخ ما يسميه مراقبون “العلاقة الأمنية المقدسة” مع الاحتلال، بوصفها الضمانة الأهم لبقائه في الحكم. فكلما اشتدت الضغوط الداخلية أو الخارجية، لجأ النظام إلى تعزيز التنسيق الأمني مع إسرائيل وتقديم أوراق اعتماد جديدة في ملف “محاربة الإرهاب”، وهو الشعار الذي استخدمه لتبرير قمعه في الداخل وخنوعه في الخارج.
الولايات المتحدة وتل أبيب، من جانبهما، وجدتا في السيسي شريكًا مثالياً: يطبّع بلا خجل، ويقمع شعبه بلا رحمة، ويقدّم نفسه كـ“حارس موثوق لحدود إسرائيل”. لذلك لم يكن غريبًا أن تتجاهل واشنطن كل تقارير القمع والانتهاكات الحقوقية في مصر، ما دام النظام يضمن أمن الدولة العبرية.
تحليلات خبراء.. تبرير الصمت وتجميل التواطؤ
السفير السابق محمد حجازي يرى أن التصعيد الإسرائيلي يأتي ضمن خطة أمريكية لإعادة رسم خرائط الحدود بعد الحرب على غزة، بحيث تكون حدود مصر مع “دولة فلسطين” وليس مع إسرائيل. لكن القاهرة — كما يصف — تتعامل مع التطورات “ببرود متعمّد”، وكأنها غير معنية بأي مساس بسيادتها.
أما العقيد حاتم صابر، المقرّب من دوائر النظام، فاكتفى بالقول إن القرار الإسرائيلي “ردع داخلي”، متجنباً توجيه أي انتقاد للسيسي أو لمؤسساته الأمنية، ليؤكد بذلك أن الصوت الرسمي في مصر أصبح مجرد صدى للخطاب الإسرائيلي — الأمريكي المشترك.
السيسي.. يختبئ وراء “الحكمة” لحماية الاحتلال
ما يسميه النظام “ضبط النفس” ليس سوى عنوان جديد للجبن السياسي والخضوع الكامل للإملاءات الأجنبية. فبينما تنتهك إسرائيل الحدود وتقتل الأبرياء، يصرّ السيسي على التمسك بخطاب “الحكمة”، الذي لا يراه أحد سوى استسلام. لقد اختار النظام أن يكون “درع إسرائيل” في الجنوب، متخفياً وراء معاهدات السلام التي لم تحمِ يوماً لا أمن مصر ولا كرامتها.
من يحمي مصر من السيسي؟
اليوم لم يعد السؤال عن حدود غزة أو هدنة فاشلة، بل عن حدود الكرامة الوطنية التي داستها سياسات الانقلاب. فالسيسي الذي يفاخر بضبط النفس أمام الاحتلال هو نفسه الذي يبطش بالمصريين في الداخل، ويكمّم أفواه المعارضين، ويغلق كل معبر إلا ذلك الذي يصل تل أبيب بالقاهرة.
لقد تحوّل السيسي إلى حارس أمين لحدود إسرائيل، يبرر عدوانها ويغطي جرائمها ويقمع من يعارضها. وفي ظل هذا الصمت الرسمي المطبق، يبقى الشعب المصري وحده من يدرك أن “الحكمة” التي يتحدث عنها السيسي ليست إلا غطاءً للتواطؤ، وأن “الأمن القومي” الذي يتذرع به ليس إلا أمن إسرائيل، لا أمن مصر.

