في تطور يعكس عمق الأزمة السياسية والاقتصادية في الولايات المتحدة، أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترمب أنه لا يريد أن "يجوع الأميركيون"، مؤكداً استعداده للحفاظ على تمويل برنامج الإعانات الغذائية للفقراء (سناب)، في وقت تواجه فيه البلاد خطر توقف المساعدات لنحو 42 مليون أميركي من محدودي الدخل بسبب استمرار الإغلاق الحكومي.
وبينما تؤكد وزارة الزراعة أن الأموال المتاحة لا تكفي لتغطية كامل الإعانات الشهرية، تدخل القضاء الفيدرالي على خط الأزمة، حيث أصدرت محكمتان في ماساتشوستس ورود آيلاند حكماً يلزم الإدارة باستخدام أموال الطوارئ لتأمين التمويل مؤقتاً، مما يعكس حالة التراجع والتردد في قرارات ترمب خلال واحدة من أكثر الأزمات الاجتماعية حساسية.
خلفية الأزمة: الإغلاق الحكومي يهدد الأمن الغذائي
تعود جذور الأزمة إلى الإغلاق الحكومي المستمر منذ الأول من أكتوبر (تشرين الأول)، بعد فشل الكونغرس في تمرير قانون الإنفاق الفيدرالي، ما أدى إلى تعليق عدد كبير من البرامج الاجتماعية، وفي مقدمتها برنامج سناب (SNAP)، وهو برنامج المساعدة الغذائية التكميلية الذي يعتمد عليه عشرات الملايين من الأميركيين.
وبحسب وزارة الزراعة، فإن الكلفة الشهرية للبرنامج تتراوح بين 8.5 و9 مليارات دولار، بينما المتاح في الخزينة لا يغطي سوى جزء من هذه المبالغ.
وقد أبلغت الوزارة البيت الأبيض أن استمرار التمويل دون موافقة الكونغرس يُعد مخالفة قانونية محتملة، ما دفع ترمب إلى طلب “توضيح قانوني عاجل” من مستشاريه، قبل أن يعلن عبر منصة تروث سوشيال أنه يبحث عن طريقة “قانونية ومشرّفة” لتأمين الأموال.
وقال ترمب في منشوره:
“إذا حصلنا على التوجيه القانوني المناسب من المحكمة، فسيكون من دواعي شرفي تأمين التمويل. لن أسمح بأن يجوع الأميركيون.”
لكن تلك التصريحات وُصفت من قبل مراقبين بأنها محاولة سياسية لتخفيف الضغط الشعبي بعدما أثار إعلان وزارة الزراعة موجة ذعرٍ بين الأسر الفقيرة التي تعتمد على الإعانات الشهرية لتغطية احتياجاتها الأساسية.
القضاء يتدخل: أحكام ضد قرار الإدارة
في سابقة نادرة، أصدرت محكمتان فيدراليتان خلال ساعات قليلة أحكامًا متزامنة تمنع إدارة ترمب من تعليق المساعدات الغذائية.
ففي بروفيدنس بولاية رود آيلاند، حكم القاضي جون ماكونيل بأن قرار الإدارة بعدم استخدام 5.25 مليار دولار من أموال الطوارئ كان “تعسفياً وغير مبرر”، مضيفًا أن وقف التمويل “سيتسبب بضرر لا يمكن إصلاحه”.
وفي بوسطن بولاية ماساتشوستس، أصدرت القاضية إنديرا تالواني قرارًا مشابهًا، معتبرة أن الإدارة “أخطأت قانونيًا” حين منعت استخدام أموال الطوارئ لتمويل استحقاقات شهر نوفمبر.
هذه الأحكام جاءت استجابةً لدعاوى قضائية رفعتها 25 ولاية يقودها الديمقراطيون، إلى جانب مقاطعة كولومبيا وعدد من المنظمات غير الربحية والنقابات العمالية، للمطالبة بإجبار الحكومة على استمرار صرف الإعانات حتى انتهاء الإغلاق.
القضاة شددوا في أحكامهم على أن “الضرر الاجتماعي يفوق أي اعتبارات سياسية”، مؤكدين أن مئات الآلاف من الأسر ستفقد مصدرها الأساسي للغذاء إذا لم يتم التصرف بأموال الطوارئ فورًا.
وزارة الزراعة في موقف حرج
أوضحت وزارة الزراعة الأميركية أن الاعتمادات المتبقية لديها لا تكفي لتغطية كامل الإعانات البالغة 8.5 إلى 9 مليارات دولار شهريًا، محذّرة من أن استمرار الصرف دون اعتمادٍ قانوني قد يعرضها للمساءلة أمام الكونغرس.
وأشارت الوزارة إلى أن ما تمتلكه من تمويل “يمكن أن يغطي فقط دفعة محدودة ومؤقتة”، وأنها تحتاج لتصديقٍ تشريعي جديد لضمان استدامة البرنامج.
لكن القضاء اعتبر هذا الموقف تذرعًا بيروقراطيًا، ورأى أن الإدارة بإمكانها استخدام احتياطي الطوارئ البالغ 5.25 مليار دولار، وهو ما تجاهله البيت الأبيض بدعوى غياب “الغطاء القانوني”.
هذه المبررات، وفق مراقبين، تكشف ارتباكًا واضحًا في إدارة ترمب، التي تتأرجح بين الرغبة في كسب التأييد الشعبي ورفض الانصياع الكامل لقرارات القضاء.
ردود فعل شعبية وسياسية
أثار الجدل حول برنامج “سناب” عاصفة من الانتقادات، خاصة من الولايات الديمقراطية التي اعتبرت أن سياسات ترمب “تستهدف الطبقات الفقيرة” وتكرّس “الفجوة الاجتماعية”.
في المقابل، دافع مؤيدو ترمب عن قراره بحجة “الالتزام بالقانون الدستوري”، مؤكدين أن تمويل أي برنامج دون موافقة الكونغرس يمس مبدأ الفصل بين السلطات.
إلا أن الواقع الميداني يشير إلى أن الأزمة تجاوزت الجدل القانوني لتتحول إلى مأساة إنسانية محتملة، إذ يهدد فقدان الإعانات أكثر من 42 مليون أميركي من محدودي الدخل، بينهم ملايين الأطفال وكبار السن.
المنظمات المدنية حذّرت من “انفجار اجتماعي” إذا لم يُحلّ الخلاف خلال الأيام المقبلة، مؤكدة أن كثيراً من الأسر بدأت تفقد القدرة على شراء المواد الأساسية مع اقتراب موعد الاستحقاقات.
ترامب بين القانون والواقع السياسي
يُظهر هذا التراجع الجديد أن إدارة ترمب تواجه اختباراً صعباً بين الشرعية القانونية والضغط الشعبي.
ففي الوقت الذي يحاول فيه الرئيس إظهار التعاطف مع الفقراء، فإن قراراته المتأخرة وتردده في استخدام أموال الطوارئ يُظهران افتقارًا للوضوح والقيادة الحازمة.
ويرى محللون أن تصريحات ترمب الأخيرة “لن تُسعفه سياسيًا” إذا بدأت المساعدات بالتوقف فعلاً، خصوصًا أن خصومه في الحزب الديمقراطي يسعون لتصويره كـ“رئيس يعيد أميركا إلى الخلف”، يواجه الأزمات بالشعارات لا بالحلول.
ختاما فتقرير هذا الأسبوع يختصر المشهد الأميركي في لحظة اضطراب: رئيس متردد، وإدارة منقسمة، ومؤسسات قضائية تحاول إنقاذ الفقراء من الجوع.
وبينما يتحدث ترمب عن “شرف” تمويل برنامج الغذاء، يواجه ملايين الأميركيين خطر الجوع الفعلي إذا لم تُفعّل قرارات القضاء سريعاً.
هكذا يبدو أن شعار المرحلة أصبح حرفيًا: “ترامب يرجع للخلف” — لا سياسيًا فقط، بل إنسانيًا أيضًا، إذ يقف على مفترق بين دولة الرفاه ودولة الإغلاق.

