رغم تعهدات دستورية واضحة ألزم بها دستور 2014 الحكومة المصرية بإنفاق ما لا يقل عن 6% من الناتج المحلي الإجمالي على التعليم، فإن الأرقام الرسمية تُظهر شيئًا مختلفًا تمامًا، بل وصادمًا: في موازنة 2024/2025، لم تتجاوز نسبة الإنفاق على التعليم 1.7% فقط، أي أقل من ثلث الحد الأدنى الدستوري.

هذا التراجع الحاد في التمويل لا يعكس فقط فشلًا إداريًا وماليًا في إعطاء الأولوية للتعليم، بل يهدد أيضًا مستقبل أجيال كاملة في بلد يُعاني أصلًا من تدهور جودة التعليم، وعجز كارثي في البنية التحتية والمعلمين والموارد.

 

انفصال بين الأرقام الرسمية والواقع الميداني

في كل مناسبة، تكرر حكومة مصطفى مدبولي ووزراؤه تصريحات إعلامية حول "الاهتمام بالتعليم" و"زيادة المخصصات بنسبة 28%"، لكن هذا التحسن الظاهري لا يصمد أمام التحليل الاقتصادي الحقيقي.

فمع التضخم المتسارع وارتفاع الأسعار، تصبح الزيادات الاسمية مجرد أرقام مضللة. إذ تعتمد الحكومة على حيلة رفع تقديرات الناتج المحلي الإجمالي دون رفع مخصصات التعليم بنفس النسبة، ما يؤدي فعليًا إلى تراجع الإنفاق كنسبة حقيقية من الناتج المحلي، مخالفة صريحة لنصوص الدستور.

وبينما يدور الخطاب الرسمي حول التطوير والتكنولوجيا، يواجه الطلاب واقعًا مريرًا في مدارس مكتظة، بدون مرافق صحية أو معامل أو مقاعد، وفي فصول قد يتجاوز عدد الطلاب فيها 60، بل 100 طالب أحيانًا في المناطق الشعبية.

 

نقص كارثي في الفصول والمعلمين

أزمة التعليم لا تقف عند ضعف التمويل، بل تمتد إلى نقص البنية الأساسية والمعلمين:

  • عجز في أكثر من 250 ألف فصل دراسي.
  • كثافة طلابية في بعض المدارس تصل إلى 200 طالب في الفصل.
  • نقص يتجاوز 469 ألف معلم مؤهل في جميع المراحل.
  • رواتب المعلمين الجدد لا تتجاوز 1,920 جنيهًا شهريًا، أي أقل من الحد الأدنى للأجور، مما يؤدي إلى عزوف الكفاءات عن العمل في التعليم الحكومي.
  • ضعف شديد في برامج التأهيل والتدريب.

هذه المعطيات تُشير بوضوح إلى أزمة هيكلية، لا يمكن حلّها بالتصريحات، بل تتطلب تغييرًا جذريًا في أولويات الدولة المالية.

 

العدالة التعليمية غائبة... والتعليم للأغنياء فقط

تراجع الإنفاق الحكومي دفع مئات الآلاف من الأسر المصرية نحو الدروس الخصوصية والتعليم الخاص، حتى في أبسط المراحل الدراسية.
وفي المقابل، انهارت المدارس الحكومية المجانية التي كانت تمثل الأمل الوحيد لأبناء الطبقات الفقيرة في التعليم والتطور.

هكذا، تحول التعليم الجيد إلى امتياز طبقي، بينما عانت الطبقات الفقيرة من الإقصاء التدريجي، في ظل غياب دعم حكومي حقيقي.
وبات أبناء الفقراء أمام خيارين: تعليم مجاني متدهور، أو حرمان تام من حقهم في التعليم.

 

الديون تلتهم كل شيء.. والتعليم أول الضحايا

في مفارقة مأساوية، تُنفق الدولة الآن أكثر من 70% من إيراداتها على خدمة الدين العام (فوائد وأقساط)، بينما يُخصص أقل من 2% للتعليم.
هذه المفارقة تُظهر خللًا خطيرًا في توزيع الموارد العامة، حيث يُضحّى بأولويات المواطن، وعلى رأسها التعليم، لصالح إرضاء صندوق النقد والدائنين الخارجيين.

وبدلًا من مراجعة أولوياتها، تستمر السلطة في تمويل مشروعات إنشائية وعقارية فخمة مثل العاصمة الإدارية، بينما يجلس ملايين الأطفال في فصول متهالكة بلا كتب أو أدوات.

 

ما هو الثمن؟ مستقبل وطن بأكمله

النتيجة واضحة:

  • أجيال تخرج من التعليم الحكومي دون مهارات حقيقية.
  • ضعف في التحصيل العلمي.
  • عجز في التنافس على مستوى الجامعات أو سوق العمل.
  • تفاقم الفجوة الطبقية والتعليمية بين الأغنياء والفقراء.

في غياب تدخل عاجل، يتجه النظام التعليمي نحو انهيار تدريجي لا يُنذر فقط بأزمة معرفية، بل بكارثة اجتماعية شاملة.

 

وأخيرا من المسؤول؟

حين يخالف النظام المصري نصوص دستوره نفسه، ويقزّم التعليم إلى بند ثانوي في الموازنة، فإن الحديث عن تنمية حقيقية يصبح مجرد وهم.

السلطة مطالبة اليوم، لا بالتجميل، بل بإجابات واضحة:

  • لماذا لم تُنفَّذ النسبة الدستورية منذ 2014؟
  • من المستفيد من تهميش التعليم؟
  • وما الجدوى من مشروعات كبرى لا تحمي مستقبل أجيالها؟
  • فإذا كان التعليم مستقبل الأمة، فإن ما يحدث الآن هو اغتيال منظم لهذا المستقبل.