بينما يتحدث المسؤولون يوميًا عن “التحول الأخضر” و“مشروعات المستقبل”، تكشف التقارير الاقتصادية أن مصر تمضي بخطى سريعة نحو المزيد من الاقتراض، لتعلن الشركة المصرية لنقل الكهرباء عن تفاوضها مع بنك الاستثمار الأوروبي (EIB) للحصول على منحة قيمتها 100 مليون يورو، لتمويل ما وُصف بأنه “مجموعة من مشروعات وخطوط الكهرباء الجديدة لربط مشروعات الطاقة المتجددة بالشبكة القومية”.

لكن خلف هذا العنوان البرّاق، يبرز السؤال الأهم: إلى متى ستظل حكومة الانقلاب تعتمد على الديون والمنح الخارجية لتسيير كل مشروع؟

 

منحة أم دين جديد؟

ورغم أن الخطاب الرسمي يصف التمويل المرتقب بأنه “منحة”، فإن التجارب السابقة تشير إلى أن أغلب هذه التمويلات تتحول إلى قروض بشروط فنية ومالية معقدة، تُضاف في النهاية إلى جبل الديون الذي تخطى بالفعل 165 مليار دولار من الديون الخارجية، إلى جانب التزامات أخرى لصندوق النقد الدولي ومؤسسات أوروبية.

بل إن مصر أصبحت، وفق تقارير البنك الدولي، أكبر مقترض في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا خلال السنوات الأخيرة، رغم الخطاب الحكومي عن “الإصلاح والنمو”.

 

كهرباء مديونة.. وطاقة بلا جدوى

قطاع الكهرباء، الذي كان من المفترض أن يكون قصة نجاح بعد التوسعات الضخمة في المحطات العملاقة (مثل محطة البرلس وبني سويف والعاصمة الإدارية)، تحوّل إلى عبء مالي متضخم.

فالشبكة القومية لا تزال تعاني من ضعف في الكفاءة، وانقطاعات متكررة في بعض المناطق، فضلًا عن ارتفاع فواتير الكهرباء على المواطنين بصورة غير مسبوقة.

وفي الوقت الذي يُقال فيه إن “المنحة” الأوروبية ستُخصص لربط الطاقة الشمسية وطاقة الرياح بالشبكة، يعاني ملايين المصريين من زيادات الأسعار، وضرائب جديدة، وتقشف خانق، في حين تُوجَّه القروض لمشروعات لا يشعر المواطن بعائدها.

 

فشل في إدارة الموارد

منذ سنوات، ترفع الحكومة شعار “التحول إلى مركز إقليمي للطاقة”، لكنها في الواقع لم تُحقق اكتفاءً ذاتيًا مستدامًا حتى في الكهرباء، إذ تعاني محطات التوليد من نقص في الغاز الطبيعي، ويتم استيراد جزء من احتياجاتها بالدولار، ما يُفاقم أزمة العملة.

بدلًا من ترشيد الإنفاق أو مراجعة أولويات الاستثمار، تواصل الحكومة تدوير الأزمة عبر الاقتراض الخارجي، في وقتٍ تتآكل فيه العملة المحلية وتتضاعف أسعار السلع.
فما الجدوى من مشروعات عملاقة تُموَّل بالدين بينما المواطن يعجز عن دفع فاتورة الكهرباء أو شراء الأساسيات؟

 

أين “النمو” الذي يتحدثون عنه؟

كل قرض جديد يُقدَّم للمصريين على أنه “دفعة للنمو”، لكن لا أحد يرى هذا النمو في الواقع، الناتج المحلي يتآكل بفعل التضخم، والاستثمارات الأجنبية المباشرة تتراجع، واحتياطي النقد الأجنبي لا يغطي سوى أشهر محدودة من الواردات.

في المقابل، تتضاعف خدمة الدين، إذ تلتهم أكثر من 60% من الموازنة العامة وفق بيانات وزارة المالية نفسها، فأي “نمو” هذا الذي يقوم على الاستدانة من أجل سداد الديون السابقة؟

 

مشروعات استعراضية.. وواقع مأزوم

لا يمكن فصل هذا الملف عن نمط حكم قائم على “المشروعات الاستعراضية” لا على السياسات المنتجة.

في الوقت الذي يُعلن فيه السيسي عن محطات عملاقة وافتتاحات جديدة، تغرق الدولة في ديونها، وتُهمل الاستثمار الحقيقي في الصناعة والزراعة والتعليم والصحة.

حتى “مشروعات الطاقة المتجددة” التي تُقدَّم للعالم كرمز للتقدم، تُدار دون شفافية، وغالبًا ما تنتهي بعقود لصالح شركات أجنبية تُحوّل أرباحها إلى الخارج.

وهكذا، يصبح المواطن المصري ممولًا غير مباشر لصفقات لا تعود عليه بأي فائدة، بينما يُطالَب بالصبر و”تحمل المرحلة الصعبة”.

 

الحقيقة المُرّة

إن ما يجري ليس “تحولًا للطاقة النظيفة”، بل تحولًا نحو مزيد من الارتهان المالي والسياسي، ومادامت الدولة تُقاس بما تقترض لا بما تُنتج، فسيبقى شعار “النمو” مجرد ديكور إعلامي يغطي على واقعٍ اقتصادي مأزوم.
فالمليار بعد المليار، والمنحة بعد المنحة، والاحتفال بعد الاحتفال، لا تغيّر حقيقة واحدة: أن مصر لم تعد تملك قرارها الاقتصادي، وأن الحكومة تشتري الوقت بالديون، لا التنمية بالعمل.