الحرية أصل.. والاحتلال انحراف

 

في مقاله الأخير، يُعيد أستاذ العلوم السياسية مأمون فندي صياغة العلاقة بين الاحتلال والحرية، مشددًا على أن الحرية هي الوضع الطبيعي للإنسان والمجتمعات، بينما الاحتلال ليس إلا حالة طارئة وشاذة يتم فرضها بالسلاح أو بسطوة القوة. ينطلق فندي من هذا المبدأ ليحلل الواقع المعقّد الذي تعيشه المنطقة، خاصة بعد الكوارث البيئية الكبرى، مثل الطوفان، وما تبعها من تحولات جيوسياسية، مستخدمًا مفاهيم العدالة، الحضارة، والقوة الفكرية لتفسير ما يبدو للبعض صراعًا عسكريًا فقط.

 

نتائج الطوفان: كارثة طبيعية أم فرصة سياسية؟

 

ينظر فندي إلى الطوفان باعتباره أكثر من مجرد كارثة بيئية، بل نقطة تحوّل كشفت مدى هشاشة بعض الدول، وأظهرت استعداد قوى إقليمية ودولية لاستثمار المأساة لتحقيق مكاسب سياسية أو توسعية. فالنتائج لم تكن فقط مادية أو بيئية، بل حملت أبعادًا اجتماعية ونفسية وجيوسياسية.

 

الكارثة فتحت الباب أمام إعادة رسم خرائط النفوذ، وتوسيع بعض القوى الإقليمية لدورها على الأرض، مقابل تراجع أو غياب شبه كامل لدور المؤسسات الدولية أو الإقليمية في حماية السكان أو دعم إعادة الإعمار.

 

من هو "أبو إبراهيم"؟ رمز أم واقع؟

 

في هذا السياق، يبرز دور أبو إبراهيم، وهو – حسب التحليل – ليس بالضرورة شخصًا محددًا، بل يمثل نموذجًا للقيادة أو الجهات التي تعاملت مع الكارثة من منطلق مصلحي لا إنساني. قد يكون "أبو إبراهيم" جهة سياسية أو أمنية، محلية أو خارجية، استثمرت الأزمة لتمرير أجندات معينة، أو لإضعاف خصومها، أو لخلق أوراق تفاوضية جديدة.

 

دور "أبو إبراهيم" لا يقتصر على استغلال اللحظة، بل يتعداها إلى إنتاج سرديات جديدة للسلطة، تقوم على الخوف والعوز، بدلاً من الكرامة والتمكين. فكما يستغل الاحتلال السلاح لإخضاع الناس، كذلك تستغل بعض السلطات الكوارث لتوسيع نفوذها وتقليص الحريات.

 

القوة ليست دبابات.. بل عدالة وفكر

 

في جوهر مقاله، يُعيد فندي تعريف مفهوم القوة، بعيدًا عن أدوات العسكرة والتكنولوجيا، ليجعل من العدالة والحضارة أساسًا لبناء المجتمعات. يرى أن القوة الحقيقية لا تأتي من فوهة بندقية، بل من شرعية تستمدها السلطة من خدمتها للناس، وحفاظها على كرامتهم.

 

هذا الطرح يُفند الرؤية السائدة التي تُعلي من القوة العسكرية كمصدر للسيطرة، ويقترح بدلاً منها منظورًا حضاريًا أكثر إنسانية، حيث تُقاس قوة الدول بقدرتها على بناء السلام، تحقيق المساواة، وضمان حقوق الإنسان، لا بعدد قواعدها العسكرية أو حجم ترسانتها من السلاح.

 

الاحتلال كشكل من أشكال الانحراف التاريخي

 

يرى فندي أن الاحتلال – بكل صوره – هو انحراف عن المسار الطبيعي للتاريخ. هو حالة مفروضة بقوة الواقع، لكنه لا يملك من الشرعية أو الديمومة ما يجعله مستقرًا. فحتى إن بدا مسيطرًا لحظة ما، فإنه لا يستطيع كسب القلوب أو الاستقرار طويلًا، لأن جوهره قائم على الإخضاع، لا على التوافق.

 

وبالتالي، فإن الاحتلال لا يُنتج حضارة، بل يولد مقاومة، ويزرع الكراهية، ويقوّض العدالة. وهذا ينطبق ليس فقط على الاحتلال العسكري، بل أيضًا على الأنظمة السياسية أو الاقتصادية التي تستغل الأزمات والكوارث لإحكام قبضتها على الشعوب.

 

انعكاسات فكرية وسياسية على المنطقة

 

المقال يطرح سؤالًا مفتوحًا على مستقبل المنطقة: كيف يمكن لمجتمعات منكوبة بالطوفان – أو ما شابهه من كوارث – أن تنهض من جديد؟

 

الجواب عند فندي لا يكمن في استيراد حلول أمنية أو مساعدات مشروطة، بل في استعادة الإنسان لكرامته، وتعزيز فاعليته السياسية والاجتماعية. ويشير إلى أن استمرار القمع، أو فرض القوة بدل العدالة، سيؤدي إلى مزيد من الانفجار والانهيار.

 

وأخيرًا ما بعد الطوفان.. إما عدالة أو فوضى

 

في النهاية، يعيد فندي صياغة مشهد معقّد تداخل فيه الاحتلال بالكوارث، والسلطة بالمعاناة. ويذكّر أن الحرية ليست منحة، بل أصل، وأن كل ما يُفرض بالقوة لا يدوم. الطوفان ليس مجرد ماء يغمر الأرض، بل هو أيضًا صورة لسياسات جائرة، وخرائط يعاد تشكيلها بالقهر، لا بالتوافق.

 

وإذا لم تُبنَ القوة على العدالة والمشاركة الحقيقية، فكل "أبو إبراهيم" سيجد نفسه أمام شعوب لم تعد تحتمل، ولن تخضع طويلاً