في مشهد يكشف عن حجم التغلغل العسكري في مفاصل الدولة المدنية، فرضت الأكاديمية العسكرية المصرية رسوماً إجبارية على القضاة الجدد – بلغت 112 ألف جنيه للذكور و120 ألفاً للإناث – كشرط للتعيين في مجلس الدولة والنيابة العامة وهيئات القضاء الأخرى. هذه الخطوة، غير المسبوقة في تاريخ القضاء المصري، ليست مجرد إجراء مالي، بل تجسيد لسياسة متعمدة تهدف إلى إخضاع مؤسسات العدالة لسلطة السلاح وتحويلها إلى أذرع طيّعة في يد النظام.
المال مقابل المنصب: بيع الوظيفة العامة باسم “التأهيل”
القضاة الجدد الذين يفترض أنهم حماة العدالة وجدوا أنفسهم أمام ابتزاز رسمي: "ادفع لتُعيَّن". هذا ما أكده أحدهم حين رد عليه موظف التحصيل: «ادفعي الأول وبعدين اشتكي». لم يعد معيار الكفاءة أو النزاهة هو الفيصل في التعيين، بل القدرة على الدفع. بذلك، تحوّل القضاء من سلطة مستقلة إلى سلعة تباع داخل ثكنة عسكرية.
ما يُسمى بـ"الدورة التأهيلية" التي تُقام في الكلية الحربية ليست تدريباً مهنياً، بل برنامج ولاء سياسي. فالمحتوى لا يتضمن سوى محاضرات عن حرب أكتوبر، وفن الإتيكيت، والانضباط العسكري، بينما يُغيّب التدريب الحقيقي على مبادئ العدالة واستقلال القاضي.
تغوّل الأكاديمية العسكرية: نقل التعيين من الهيئات القضائية إلى الجيش
الخطاب الصادر عن مجلس الوزراء في أبريل 2023، والموقع من لواء جيش، كشف أن القرار رئاسي ومباشر من عبد الفتاح السيسي، يلزم جميع مؤسسات الدولة – بما فيها القضاء – بإلحاق موظفيها المدنيين بدورات داخل الكلية الحربية كشرط للتعيين.
هذا الإجراء يعني ببساطة أن سلطة التعيين القضائي لم تعد بيد مجلس الدولة أو النيابة العامة، بل بيد الأكاديمية العسكرية، التي تقيّم وتراقب وتصدر تقارير تحدد مصير القضاة الجدد.
القضاة الرافضون لهذا التدخل وصفوه بأنه “انتهاك لاستقلال القضاء” و”قيد طبقي يمنع أبناء الفقراء من تولي المنصب”. بينما رأى ناصر أمين، رئيس المركز العربي لاستقلال القضاء، أن فرض هذه الرسوم يمثل “تسليعاً للوظيفة القضائية وانتهاكاً للدستور الذي ينص على استقلال السلطات”.
السيسي: عسكرة الإنسان قبل الدولة
في زيارته للأكاديمية في سبتمبر الماضي، كشف السيسي عن فلسفته بوضوح: الهدف هو “بناء شخصية مشعّة تؤثر في المجتمع”. كلمات تحمل في ظاهرها طابعاً تربوياً، لكنها في جوهرها تفضح مشروعاً متكاملاً لـإعادة هندسة العقل المدني المصري على النموذج العسكري.
فالسيسي يطمح لتدريب 100 ألف موظف مدني خلال عشر سنوات، ليصبح نصف مليون مواطن خاضعاً لثقافة الانضباط العسكري والطاعة المطلقة. إنه مشروع لـ"تجنيد المجتمع"، لا لتطويره.
الجيش لم يكتفِ باحتكار الاقتصاد والإعلام والسياسة، بل امتد ليُخضع القضاء والتعليم والأوقاف وحتى الدبلوماسية. أصبح كل من يريد وظيفة في الدولة مطالباً بارتداء الزي العسكري مؤقتاً، ودفع ثمن "الانتماء" للنظام نقداً.
انهيار مبدأ استقلال القضاء
القضاء في أي دولة ديمقراطية هو حصن المواطن الأخير أمام تعسف السلطة، لكن في مصر اليوم، القاضي نفسه يخضع لاختبار الولاء قبل اختبار الكفاءة. الأكاديمية العسكرية تقيم البدن والنفسية والانضباط، لا العلم ولا العدالة. التقارير التي ترفعها للجهات القضائية تحدد من يُعيَّن ومن يُستبعد، لتتحول العدالة إلى تابع في منظومة الحكم العسكري.
تجاهلت الحكومة الاعتراضات التي قدمها نواب من مجلس الدولة وهيئة قضايا الدولة، وأصرت على أن التدريب شرط رئاسي لا يمكن تجاوزه. وهكذا أُجبرت الهيئات القضائية على الخضوع، تحت شعار “التأهيل لبناء الإنسان”، في حين أن الهدف الحقيقي هو إعادة تشكيل النخبة القضائية لتكون نسخة مكررة من النظام نفسه.
بفرض الدورات العسكرية والرسوم الباهظة على القضاة، حوّل السيسي القضاء من سلطة مستقلة إلى إدارة تابعة للأكاديمية العسكرية. إنها ليست مجرد دورة تدريبية، بل عملية إخضاع ممنهجة تستهدف كسر روح الاستقلال المهني وتحويل القضاة إلى موظفين في خدمة السلطة التنفيذية.
إن ما يجري اليوم يمثل أخطر مراحل عسكرة الدولة، حين يُنتزع من العدالة ثوبها المدني ويُلبسها الزي العسكري. فحين يدفع القاضي ليُعيَّن، ويتلقى أوامره من لواء، ويُربَّى على الطاعة لا على القانون، فإن العدالة تموت، ويولد قضاء تابع، لا يملك إلا أن يحكم بما يرضي الحاكم.
في مصر السيسي، لم تعد العدالة عمياء؛ بل صارت ترتدي بزّة عسكرية وتحمل رقم حساب مصرفي.

