يشهد المجتمع المصري واحدة من أخطر التحولات الاجتماعية في تاريخه الحديث، بعد أن انهارت معدلات الزواج إلى أدنى مستوياتها منذ عقود، فبحسب نقيب المأذونين إسلام عامر، بلغ عدد الزيجات في عام 2025 نحو 320 ألف حالة فقط منذ بداية العام، مقارنة بـ500 ألف في الفترة نفسها من العام الماضي — أي انخفاض يقارب 180 ألف زيجة خلال عام واحد.
ووراء هذه الأرقام تقف سياسات اقتصادية فاشلة فرضها النظام العسكري، جعلت الزواج حلمًا مؤجلاً، والاستقرار الأسري رفاهية لا يقدر عليها إلا الأثرياء.
الأسباب الاقتصادية في المقام الأول
تشير معظم التقارير إلى أن التراجع في معدلات الزواج مرتبط ارتباطًا وثيقًا بالظروف الاقتصادية الصعبة. ارتفاع أسعار الأجهزة الكهربائية، والذهب (الذي تستخدمه في "الشبكة" - الذهب الذي يقدمه العريس للعروس كتقليد)،
تجاوزت تكاليف "الدبلة والمحبس" نحو 50 ألف جنيه، كما ارتفع سعر جرام الذهب عيار 21 إلى حوالي 5760 جنيهًا. هذه التكاليف الباهظة تجعل من الزواج عبئًا لا يطيقه أغلبية الشباب، مما يدفع الكثير منهم إما إلى تأجيل الزواج أو التخلي عنه تمامًا.
قال الباحث الاقتصادي بسام رعد إن الزواج أصبح حالة اقتصادية بحتة تحتاج إلى رأس مال وتراكم مالي لسنوات من العمل، وإن ارتفاع التكاليف أجبر الكثير من الشباب على الاستدانة أو التأجيل، مشيرًا إلى أن "اقتصاديات الزواج" تشكل عائقًا اقتصادياً أمام الشباب، خاصة مع غلاء السكن والمهور.
ظروف اجتماعية وثقافية معقدة
إلى جانب الضغوط الاقتصادية، ثمة عوامل اجتماعية وثقافية ساهمت في تفاقم الأزمة. ثقافة وسائل التواصل الاجتماعي تروج لمظاهر البذخ والرفاهية في حفلات الزفاف، مما يرهق الشباب مادياً ويخلق نوعًا من التنافس الاجتماعي غير العملي.
كما أن ارتفاع حالات الطلاق والعنف الأسري يؤثران سلبًا على الرغبة في الزواج. ظاهرة العنوسة وصلت إلى مستويات خطيرة مع وجود نحو 13 مليون عانس منهم 11 مليون فتاة وأكثر من 2 مليون شاب، وهو أمر يهدد استقرار المجتمع وتماسكه.
يرى أستاذ علم الاجتماع د. سعيد صادق أن التقاليد المترسخة مع الأوضاع الاقتصادية غير المواتية خلقت أزمة الزواج، مشددًا على أن تأجيل سن الزواج ليس فقط بسبب "الشبكة" بل تكاليف السكن ومستلزماته تشكل أعباء ثقيلة، وأن بعض العادات التقليدية تبقى "تكسر ظهر الشاب".
سياسات العسكر… من الخرسانة إلى الخراب الاجتماعي
بينما تنفق السلطة المليارات على العاصمة الإدارية والقصور الرئاسية والمشروعات الدعائية، تُترك قضايا المجتمع الحقيقية — كالزواج، والبطالة، والسكن — للمجهول.
النظام العسكري حوّل الاقتصاد إلى ساحة مغلقة تحت هيمنة الشركات التابعة للجيش، ما قتل المنافسة ودمّر فرص العمل للشباب.
ومع انهيار الأجور وارتفاع الأسعار، لم يعد الشاب المصري يفكر في الزواج أو الإنجاب، بل في كيفية البقاء على قيد الحياة.
هذه السياسات جعلت من الزواج، الذي كان رمزًا للاستقرار، مؤشرًا على الانهيار — انهيار منظومة القيم، وانهيار الثقة في المستقبل، وانهيار الأمل في العدالة الاقتصادية.
ثقافة المظاهر في ظل فقر الدولة
العسكر لم يكتفوا بتجويع الناس، بل سمحوا بازدهار ثقافة المظاهر الفارغة التي تروّجها وسائل الإعلام الرسمية ومنصات التواصل، حيث يُقاس النجاح بالذهب والفخامة.
تحت وطأة الفقر، يسعى البعض لتقليد نمط “الثراء الزائف”، فتتحول حفلات الزواج إلى سباقٍ في البذخ، بينما يعجز أغلب الشباب حتى عن دفع مقدم شقة.
النتيجة أن مصر أصبحت تضم أكثر من 13 مليون عانس (11 مليون فتاة و2 مليون شاب) — رقم مرعب يهدد تماسك المجتمع ومستقبله الديمغرافي.
كما يعتبر تراجع زيجات مصر 2025 يعكس أزمة اجتماعية حقيقية تنبع من عوامل اقتصادية وثقافية مركبة. ارتفاع تكاليف الزواج بشكل مبالغ فيه، خاصة أسعار الذهب والسكن، ضعف الأمان الوظيفي، وانتشار ثقافة المظاهر كلها تحبط الشباب عن الزواج.
أما الحكومة، فلا تزال غير قادرة على توفير حلول ناجعة تعالج هذه الأزمة، مما يسهم في اتساع ظاهرة العنوسة التي تؤدي إلى تهديدات اجتماعية حادة تستوجب تدخل عاجل وفعال.
لذلك ينبغي على الحكومة إعادة النظر في سياساتها الخاصة بدعم الشباب، والعمل على خفض تكاليف الزواج عبر حملات توعية وتيسير إجراءات الزواج، مع توفير دعم اقتصادي واجتماعي حقيقي يمكّن الشباب من تحقيق حياة أسرية مستقرة.