وائل قنديل

كاتب صحافي مصري

 

يشبه الأمر نكتةً تتكرّر في عالم كرة القدم عن فساد التحكيم، فيسخر أحدهم بالقول على لسان حكم مباراة: "ضربة الجزاء التي سوف أحتسبها غداً لمصلحة فريق ضدّ آخر صحيحة وشرعية مائة بالمائة"، وذلك ما فعلته الخارجية الأميركية، وهي تمهّد للعدوان الصهيوني المتجدّد على غزّة وتبرّره قبل وقوعه بيوم، إذ أعلنت في عدّة رسائل مفاجئة (ليلة الأحد) أنها "أبلغت الدول الضامنة بتقارير موثوقة عن انتهاك وشيك للاتفاق من حركة حماس ضدّ سكّان غزّة"، وأن "الدول الضامنة اتفاق غزّة تطالب حركة حماس بالوفاء بالتزاماتها بموجب بنود وقف إطلاق النار"، و"إذا مضت حماس في الهجوم فسيتم اتخاذ إجراءات لحماية سكّان غزّة والحفاظ على وقف إطلاق النار".

 

ما إن طلع النهار حتى بدأ الصهيوني في تحريك أدواته في مدينة رفح، مليشيات العملاء والجواسيس، الذين تسمّيهم واشنطن "سكّان غزّة"، الذين كان اسمُهم "العصابات" قبل ثلاثة أيام فقط عند دونالد ترامب، قبل أن يلقّنه الفريق الصهيوني في البيت الأبيض أن هؤلاء جزءٌ من المنظومة الأمنية الإسرائيلية، ولا يجب تركهم وحدهم في قبضة المقاومة، فيغيّر كلامه بشكل كامل، ليستأنف جيش الاحتلال عدوانه على غزّة بالوتيرة التي كانت سائدةً قبل الحفلة التنكّرية في شرم الشيخ، لتشنّ طائرات العدوان أكثر من 20 غارة خلال 20 دقيقة فقط من استئناف قصف غزّة أمس.

 

منذ البداية، كان واضحاً أن "سلام ترامب" صورة أخرى من صور الشراكة الأميركية الإسرائيلية في تحويل قطاع غزّة حالةً ترضى عنها تل أبيب وتحقّق أهدافها كاملة. أو بالأحرى، هو طريقة أخرى لتحقيق أهداف العدوان، وليس بحثاً عن سلام حقيقي يقوم على العدل والإنصاف والرغبة في حفظ حياة البشر، إذ كان التركيز كلّه في استعادة جثث قتلى العدو في الحرب والحصول على الأسرى الأحياء. وما إن تحقق ذلك، حتى عاد ترامب إلى أصله، وبدأ يتوعّد المقاومة بالجحيم مجدّداً إن أغضبت إسرائيل، ليعلن بالنصّ أنه يستطيع دفع الصهيوني إلى استئناف المذبحة بكلمة واحدة منه، وأنه إن لم تلبِّ "حماس" كل رغبات نتنياهو فالآلة العسكرية جاهزة للتحرّك، وها هي قد تحرّكت بالطاقة القصوى.

 

كان أخطر ما تحقق للكيان الصهيوني في شرم الشيخ أن ترامب وضع الوسطاء من أشقّاء فلسطين في مواجهة "حماس" رسمياً، حين حصل على توقيعهم على ما تسمّى "وثيقة ترامب للسلام"، وهو ما شاهدنا الترجمة العملية له في تصريحات الخارجية الأميركية التي تضمّنت أن "الدول الضامنة لاتفاق غزّة تطالب حماس بالوفاء بالتزاماتها بموجب بنود وقف إطلاق النار"، وكأن الكيان الصهيوني يغرس أشجار الزيتون ويرويها في غزّة، بينما تقتلعها "حماس" وتدمّرها، أو كأن تل أبيب أوفت بالتزاماتها حسب خطّة ترامب، فيما كل الخروق تأتي من فصائل المقاومة وحدها، ما يشي، في نهاية المطاف، بأن مفهوم "الدول الضامنة" عند واشنطن أن تكون ضامنةً لمصالح إسرائيل ورغباتها، وتصوّراتها لمستقبل قطاع غزّة.

 

بدأ التمهيد للعودة إلى العدوان إذن فور التقاط الصور في شرم الشيخ، التي توجّهت إليها كل الأطراف بأهداف خاصة بكل طرف. يريد ترامب لقب "صانع السلام"، وغيره يريد صناعة صورة زائفة عن شخص مؤثّر وفاعل وذي حضور دولي، يحكم العالم كما تهرف فرق الطبل والزمر، والصهيوني هناك ينتظر من بعيد توقيع أشقّاء غزّة بالموافقة على استئصال مشروع المقاومة. وبالتوازي، بدأت أصوات الليكوديين ذوي الأسماء العربية من الناطقين بالعربية في شاشاتٍ عربية، عماد الدين أديب وإبراهيم عيسى، وآخرون أتفه بكثير في الإعلام المحلّي، بالقيام بمهام الإعلام العبري في التبرير للعودة إلى استهداف المقاومة وتجريدها من آخر قطعة سلاح.

 

لا أحد ينشغل بتسويق دونالد ترامب بوصفه رجل سلام سوى نادي عرب التطبيع، من الراسخين فيه والمتلهفين إلى الانضمام إليه، بينما يشهد العالم كلّه أوسع موجة ثورية ضدّ الترامبية في طورها الأكثر توحّشاً وعنصرية. إذ في اللحظة التي قرّرت فيها الإدارة الأميركية استئناف إسرائيل عدوانها على غزّة كان أكثر من أربعة ملايين مواطن أميركي يزرعون أكثر من ألف وسبعمائة نقطة تظاهر ضدّ دونالد ترامب في سائر المدن الأميركية، تحت شعار "لا للملوك" ويعلنون النضال ضدّ عسكرة الديمقراطية الأميركية، وضدّ فاشية ترامب واستبداده الذي يبدو مستنسخاً من أردأ صور الاستبداد في الشرق الأوسط، ويهتفون بسقوطه في التظاهرات التي تعدّ من الأكبر والأوسع في تاريخ الولايات المتحدة.