في واحدة من أكثر القرارات الاقتصادية إثارةً للجدل، رفعت الحكومة المصرية أسعار البنزين والسولار في 17 أكتوبر 2025 بنسبة تتراوح بين 20 و25%، بعد زيادةٍ أولى في أبريل بنسبة 12%.
قراران متتاليان في أقل من ستة أشهر يعكسان ما وصفته الخبيرة الاقتصادية الدكتورة سالي صلاح بـ«العشوائية الحكومية» و«غياب الرؤية الكلية»، إذ حذّرت من أن هذه السياسات «تهدر 740 مليار جنيه من الاقتصاد الوطني وتُنهي آخر ملامح الطبقة الوسطى»، مؤكدةً أن ما تظنه الدولة وفراً في الدعم لا يتعدى 30 مليار جنيه، مقابل خسائر تفوقه بـ24 مرة.
القرارات الاقتصادية تُتخذ بلا رؤية ولا حساب شامل
تؤكد الدكتورة سالي أن الوزارات المعنية تعمل في «جزرٍ منعزلة»، وتتخذ قرارات كبرى دون تنسيق أو تحليل منهجي للآثار المترتبة على باقي القطاعات.
وتتساءل في تدوينتها: «ليه محدش بيبص على الصورة الكاملة ويحسب كوارثها الأول؟ ليه كل قرار عشوائي محدش بيفكر فيه 3 ثواني؟ نكتشف الكارثة بعد ما تحصل ونبدأ نرقّع بقرارات كارثية أكتر وبقروض أكتر؟»
وترى أن جوهر المشكلة ليس في القرار ذاته فحسب، بل في غياب منظومة التخطيط الاقتصادي المتكاملة، مما يجعل كل إجراء جديد عبئًا إضافيًا لا إصلاحًا حقيقيًا.
خسائر الصناعة: المصانع تدفع الثمن
وفق تحليل الدكتورة سالي، تبلغ مساهمة الصناعة في الناتج المحلي الإجمالي نحو 17%، أي ما يعادل 3.14 تريليون جنيه، بينما تشكل الطاقة من 15 إلى 25% من تكلفة التشغيل.
رفع أسعار الوقود بنسبة 20–25% يترجم إلى زيادة مباشرة في التكلفة الكلية للمصانع بنحو 4%. ونتيجةً لذلك تتراجع القدرة الإنتاجية بنسبة مماثلة، أي خسارة تقارب 110–125 مليار جنيه سنويًا.
النتيجة – بحسب سالي – هي إغلاق عدد من المصانع الصغيرة والمتوسطة أو تقليص إنتاجها، مما يرفع معدلات البطالة ويزيد الركود الصناعي.
الزراعة والتجارة الصغيرة في مهب الريح
تسهم الزراعة بنسبة 12% من الناتج المحلي، والتجارة والخدمات الصغيرة بنحو 30%، بإجمالي يتجاوز 7.7 تريليون جنيه. ومع الزيادة في أسعار السولار بنسبة 25%، ترتفع تكاليف الزراعة والنقل بنسب تتراوح بين 5 و15%.
تحذّر سالي من أن هذه الزيادة ستؤدي إلى تقليص المساحات المزروعة وإفلاس آلاف التجار الصغار، مقدّرةً حجم الخسارة في هذا القطاع بـ388 مليار جنيه.
وتستشهد بتقارير للأمم المتحدة تؤكد أن كل زيادة بنسبة 10% في أسعار الوقود تؤدي إلى انكماش النشاط غير الرسمي بنسبة تصل إلى 5%.
العجز التجاري يتسع رغم “الوفر” المزعوم
تقول سالي صلاح إن العجز التجاري المصري بلغ قبل الزيادة نحو 51 مليار دولار، أي ما يعادل 2.42 تريليون جنيه.
لكن ارتفاع تكاليف الإنتاج سيقلل من تنافسية الصادرات ويزيد الاعتماد على الواردات، مما يرفع العجز بنحو 10%، أي 242 مليار جنيه إضافية.
وتؤكد أن «الوفر الحكومي» البالغ 30 مليار جنيه لا يصمد أمام هذه الخسارة الهيكلية الضخمة، ما يجعل القرار – بحسب وصفها – «انتحارًا اقتصاديًا مغلفًا بورقة إصلاح».
المواطن والطبقة الوسطى: الضحية الأكبر
ترى سالي أن ارتفاع أسعار الغذاء بنسبة 30% هو النتيجة المباشرة لقرار الوقود، إذ تمثل الطاقة والنقل أكثر من 70% من تكلفة السلعة الغذائية.
فالأسرة المتوسطة، التي يتراوح دخلها بين 15 و25 ألف جنيه شهريًا، باتت تنفق من 3 إلى 5 آلاف جنيه إضافية لتغطية نفس الاستهلاك.
وتخلص إلى أن الطبقة الوسطى «لم تعد طبقة استهلاك، بل طبقة نجاة»، إذ تدفع ملايين الأسر إلى ما تسميه «الفقر الهش»، حيث يصبح شراء وجبة إضافية عبئًا ماليًا.
المعادلة الصادمة: كل جنيه “توفير” يكلف الاقتصاد 24 جنيهًا خسارة
تلخص الدكتورة سالي الحساب النهائي بالأرقام على النحو التالي: بلغ الوفر الحكومي 30 مليار جنيه، في حين بلغت خسارة المصانع نحو 110 مليارات جنيه، وخسائر الزراعة والتجارة 388 مليارًا، وزيادة العجز التجاري 242 مليارًا، ليصل الإجمالي الصافي إلى خسارة تقدر بـ710 مليارات جنيه.
وتخلص إلى أن الدولة توفّر 30 مليارًا، لكنها تُهدر 740 مليار جنيه من الناتج الوطني، فضلًا عن ارتفاع أسعار الغذاء وفقدان ملايين المصريين لموقعهم الطبقي.
وتصف ذلك بأنه «تفكيك ممنهج للدولة باسم الاستدامة، بينما هو في الحقيقة إفلاس في التفكير الاستراتيجي».
غياب الرؤية يساوي ضياع وطن
في ختام تدوينتها، توجه الدكتورة سالي صلاح نداءً صريحًا للحكومة: «وفّرت 30 مليار جنيه، وخسرت 740 مليارًا واستقرارًا اقتصاديًا وكرامة شعب.»
وتدعو إلى تشكيل خلية أزمة اقتصادية عليا تضم خبراء مستقلين، لوضع خطة حقيقية لتخفيف آثار القرارات الاقتصادية وتوجيه الدعم مباشرة إلى الفئات المنتجة والفقيرة.
وتختتم بتحذير لافت: «القرار الواحد… يكفي ليدفع ثمنه 100 مليون مواطن.