على الرغم من الترويج الإعلامي المتكرر لفكرة أن مصر من بين أرخص سبع دول في العالم في أسعار البنزين، يرى عدد من الخبراء الاقتصاديين أن هذا الادعاء مضلل ويتجاهل عوامل جوهرية تحدد العبء الحقيقي لتكلفة الوقود على المواطن.
ويؤكد هؤلاء الخبراء أن السعر الاسمي المنخفض لا يعكس الواقع الاقتصادي في ظل تدني متوسط الدخول وتأثير زيادات الأسعار المتتالية على التضخم وتكاليف المعيشة.
القدرة الشرائية عامل رئيسي في تقييم السعر
يكمن جوهر الجدل في تجاهل المقارنة بين سعر لتر البنزين ومتوسط دخل الفرد.
يشير خبراء إلى أن سعر الوقود لا يمكن تقييمه بمعزل عن القدرة الشرائية للمواطنين.
في هذا السياق، يوضح الخبير الاقتصادي محمد أحمد الزيادي أن تكلفة البنزين في مصر، عند مقارنتها بمعدل الدخل، قد تصل إلى عشرة أضعاف تكلفتها في دول مثل الولايات المتحدة الأمريكية، مما يضع مصر فعليًا ضمن الدول الأعلى عالميًا في تكلفة الوقود نسبة إلى الدخل.
هذا التحليل يقلب الرواية الرسمية رأسًا على عقب، فالسعر الذي يبدو رخيصًا بالدولار يصبح عبئًا ثقيلًا عند قياسه بالجنيه المصري وقدرته الشرائية المحدودة.
وتؤكد تقارير اقتصادية هذا المنظور، حيث تحذر من اتساع الفجوة بين الأجور وتكاليف المعيشة مع كل زيادة في أسعار الوقود.
فالحد الأدنى للأجور، الذي يبلغ 6 آلاف جنيه، لم يعد كافيًا لمواجهة الارتفاعات المتتالية في أسعار السلع الأساسية والخدمات، والتي تتأثر بشكل مباشر بأسعار المحروقات.
الأثر التضخمي: موجات غلاء متلاحقة
يحذر خبراء من أن أي زيادة في أسعار الوقود، مهما كانت طفيفة، تؤدي إلى موجة تضخمية واسعة.
يوضح الدكتور علي الإدريسي، الخبير الاقتصادي، أن ارتفاع أسعار البنزين والسولار ينعكس مباشرة على تكاليف النقل والمواصلات، ثم يمتد تدريجيًا إلى أسعار السلع الغذائية والخدمات الأساسية نتيجة ارتفاع تكلفة نقل البضائع.
هذا التأثير المتسلسل يفاقم الضغوط المعيشية ويؤدي إلى تآكل القوة الشرائية، خاصة لدى الفئات محدودة ومتوسطة الدخل.
ويتفق معه الدكتور محمد أنيس، الخبير الاقتصادي، الذي حذر من أن رفع أسعار الوقود في توقيتات حساسة يؤدي إلى ضغوط تضخمية جديدة تنعكس فورًا على تكاليف النقل والسلع، مما يزيد الأعباء المعيشية على المواطنين.
وبدوره، يرى هاني جنينة، رئيس قسم البحوث في شركة فاروس القابضة، أن رفع أسعار البنزين والسولار سيؤدي إلى زيادة في معدل التضخم الشهري.
الدوافع الحقيقية وراء الزيادات
يربط عدد من المحللين قرارات رفع أسعار الوقود بالتزامات الحكومة المصرية تجاه صندوق النقد الدولي، والتي تتضمن خفض دعم الطاقة تدريجيًا. يرى محمد فؤاد، الخبير الاقتصادي، أن رفع الأسعار هو قرار اقتصادي بالدرجة الأولى، مدفوع بوجود خلل هيكلي في منظومة الطاقة وتراكم مديونيات قطاعي البترول والكهرباء، وليس مجرد استجابة للأسعار العالمية.
ويشير خبراء آخرون إلى أن المقارنة مع دول مثل ليبيا وفنزويلا والجزائر، التي تتصدر قوائم أرخص الأسعار، هي مقارنة مضللة. فهذه الدول هي منتجة كبرى للنفط ولديها هياكل اقتصادية وسياسات دعم مختلفة جذريًا عن مصر، التي تعد مستوردًا صافيًا للمشتقات البترولية. فبينما تعتمد تلك الدول على احتياطياتها النفطية الضخمة للحفاظ على أسعار منخفضة، تواجه مصر تحديات تتعلق بتكلفة الاستيراد بالعملة الصعبة.
خبراء آخرون يدلون بآرائهم:
الدكتور سيد خضر: يؤكد أن قرار الحكومة برفع أسعار الوقود جاء لأسباب اقتصادية بحتة تتعلق بمعاناة قطاع الطاقة.
أشرف غراب: يشدد على أن الفجوة بين الحد الأدنى للأجور ومستوى الأسعار الحالي أصبحت واضحة، وأن زيادة البنزين ترفع تكاليف النقل والخدمات بنسب مؤثرة.
محمد بدرة: يوضح أن زيادة أسعار الوقود لها أثر غير مباشر على معدلات التضخم، داعيًا إلى تنسيق أكبر بين السياسات النقدية والمالية لحماية الفئات محدودة الدخل.
وهم السعر المنخفض: مقارنة القوة الشرائية بالأرقام
جوهر الحجة التي يقدمها الخبراء هو أن السعر الرخيص لا يعني بالضرورة أن الوقود ميسور التكلفة. الفيصل الحقيقي هو نسبة سعر الوقود إلى متوسط دخل الفرد.
الأسعار في مصر: بعد الزيادة الأخيرة في أكتوبر 2025، أصبحت الأسعار كالتالي:
- بنزين 95: 21 جنيهًا (حوالي 0.442 دولار).
- بنزين 92: 19.25 جنيهًا (حوالي 0.405 دولار).
- بنزين 80: 17.75 جنيهًا (حوالي 0.373 دولار).
- سعر صرف الدولار: حوالي 47.53 جنيه (في 20 أكتوبر 2025).
- مقارنة الدخل: يبلغ متوسط الراتب الشهري في مصر حوالي 9,325 جنيهًا، بينما يبلغ الحد الأدنى للأجور 7,000 جنيه شهريًا في عام 2025.
بناءً على هذه الأرقام، يمكن للمواطن المصري الذي يتقاضى متوسط الراتب شراء ما يقرب من 444 لترًا من بنزين 95 شهريًا. ويمثل سعر اللتر الواحد من بنزين 95 حوالي 0.23% من متوسط الدخل الشهري.
عند مقارنة هذا الوضع بدول أخرى، تتضح الفجوة:
الولايات المتحدة: يبلغ متوسط سعر لتر البنزين حوالي 0.97 دولار. ومع متوسط دخل شهري يتجاوز 5,600 دولار، يمكن للمواطن الأمريكي شراء ما يقرب من 5,773 لترًا شهريًا. يمثل سعر اللتر 0.017% فقط من متوسط الدخل الشهري.
الكويت: سعر اللتر 0.34 دولار. مع متوسط دخل شهري يتجاوز 3,100 دولار، يستطيع المواطن شراء حوالي 9,117 لترًا شهريًا. ويمثل سعر اللتر 0.011% من متوسط الدخل.
هذه المقارنة الرقمية تدعم رأي الخبراء بأن عبء تكلفة البنزين على المواطن المصري أعلى بكثير من نظيره في العديد من الدول، حتى لو كان السعر الاسمي في تلك الدول أعلى.
في المحصلة، يتفق الخبراء على أن الادعاء بأن مصر من أرخص دول العالم في أسعار البنزين هو تبسيط يغفل عن حقيقة المعاناة الاقتصادية للمواطن. فالعبرة ليست بالسعر المطلق، بل بمدى قدرة المواطنين على تحمل هذه التكلفة دون أن يؤثر ذلك على مستوى معيشتهم وقدرتهم على تلبية احتياجاتهم الأساسية.