في تصريحات حديثة لوزير العمل محمد جبران، أُعلنت أرقام تدعو إلى التفاؤل بشأن سوق العمل، حيث أشار إلى انخفاض نسبة البطالة من 13% عام 2014 إلى 6.1% في 2025، مع الفضل للمشروعات التنموية العملاقة التي يقودها قائد الانقلاب عبد الفتاح السيسي.

الوزير أكد أن هذه المشروعات أسست لسوق عمل عصري ومتوازن يحفظ حقوق جميع الأطراف في العملية الإنتاجية.
ورغم هذه التصريحات الرسمية التي تبدو مشجعة، فإن الواقع الفعلي يعكس أوضاعًا معقدة ومختلّة لعمال مصر، الذين يواجهون مشاكل مؤثرة تتعلق بالتأمينات، الحد الأدنى للأجور، وسبل توزيع عوائد هذه المشروعات..

جاء ذلك في كلمة مصر التي ألقاها الوزير أمام الدورة السادسة للمؤتمر الإسلامي لوزراء العمل، المنعقدة في العاصمة القطرية (الدوحة) تحت شعار “تجارب محلية، إنجازات عالمية: قصص نجاح في العالم الإسلامي” بمشاركة وزراء العمل ورؤساء الوفود من دول منظمة التعاون الإسلامي والمنظمات الإقليمية والدولية ذات الصلة.
 

المشروعات التنموية تحت الهيمنة العسكرية وتأثيرها على سوق العمل
تستحوذ القوات المسلحة المصرية على نسبة كبيرة من الاقتصاد الوطني، حيث تسيطر على ما بين 25% إلى 40% من القطاعات الاقتصادية المربحة، وفق تقديرات تقارير مستقلة.

هذه السيطرة الواسعة تعزز من احتكار الجيش للمشروعات الكبرى في البنية التحتية مثل الطرق والجسور والعاصمة الإدارية الجديدة، حيث تُسند هذه المشروعات مباشرة لشركات الجيش دون منافسة حقيقية، مما يحد من فرص القطاع الخاص، ويثني المستثمرين الأجانب عن الدخول للسوق أو تكبير أعمالهم.

هذا الاحتكار العسكري أدى إلى اختلال السوق المصري، وغالبًا ما تُوصف الوظائف التي توفرها هذه المشروعات "بطالة مقنّعة"، إذ غالبًا ما يكون العمل مؤقتًا، وغير منتج بالمعنى الاقتصادي، ويشغل أجزاء كبيرة منه مجندون يتقاضون رواتب زهيدة لا تتجاوز 250 جنيهًا شهريًا، وهو أجر يقل كثيرًا عن الحد الأدنى للأجور السائد في السوق المدني، كما يخضع هؤلاء المجندون للقوانين العسكرية لا لقوانين العمل.
 

غياب الحماية القانونية والتأمينية للعمال
أحد أهم التحديات التي تواجه العمال في مصر هو غياب الضمان الاجتماعي والتأمينات للعاملين غير المنتظمين، الذين يشكلون نسبة كبيرة من القوى العاملة.
فالشروط الصارمة الخاصة بالتأمين مثل الكشف الطبي المرتفع التكاليف تجعل الكثير من العمال محرومين من أي حماية اجتماعية.

كما أن غياب التغطية التأمينية والامتيازات النقابية يزيد من هشاشة وضعهم الاجتماعي والاقتصادي، خصوصًا في ظل غياب آليات رقابة مستقلة على أوضاع العمل في المشروعات المختلفة، وبالأخص العسكرية منها.
 

تحديات تطبيق الحد الأدنى للأجور
على الرغم من تشريع وتحديث قوانين الحد الأدنى للأجور في مصر خلال عام 2025، والتي بدأ تطبيقها عمليًا لرفع الحد الأدنى إلى 7000 جنيه، إلا أن هذه القوانين تواجه صعوبات كبيرة في التطبيق على أرض الواقع.

العديد من أصحاب العمل في القطاع الخاص والمنشآت الصغيرة والمتوسطة لا يلتزمون بتنفيذ الحد الأدنى، مما يؤدي إلى استغلال العمال واستمرار تدني مستويات معيشتهم.
وهذا الأمر يشير إلى وجود فجوة بين التشريعات الحكومية والمسؤوليات التنفيذية، ويبرز ضعف الدولة.
 

تنامي معدلات الفقر وتفاقم الأزمات الاجتماعية
ارتفعت معدلات الفقر في مصر إلى مستويات غير مسبوقة في السنوات الأخيرة، حيث تجاوزت نسبة الفقر الرسمي 35% عام 2023 بعد أن كانت أقل خلال العقد السابق.
ويرافق ذلك ارتفاع مستمر في معدلات التضخم وغلاء المعيشة، ما يجعل الطبقات العاملة وغير المنتظمة في وضع أكثر هشاشة.

العمال الذين لا يحصلون على أجر ملائم أو تأمين صحي أو اجتماعي هم أكثر الفئات تضررًا، وهذا يتناقض مع الصورة التي تصنعها التصريحات الرسمية.
 

تأثير الاقتصاد العسكري على فرص التشغيل والاستثمار
بحسب خبراء اقتصاد وسياسات، فإن توسع المؤسسة العسكرية في الاقتصاد المصري منذ 2014 أدى إلى تعقيد بيئة الأعمال وتقليص فرص القطاع الخاص في المنافسة، خصوصًا في قطاعات مثل البناء، الإسكان، والصناعات الثقيلة.

تدخل الجيش في هذه القطاعات يتم غالبًا عبر مشاريع كبرى تُدار بشفافية محدودة، مما يجعل من الصعب تقييم الفائدة الحقيقية لهذه المشروعات على الاقتصاد الوطني وفرص العمل المستدامة.
كما أن الكثير من العمال الذين يُوظفهم الجيش أو شركاته عبر عقود من الباطن لا يتمتعون بحقوق قانونية أو حماية اجتماعية.
 

غياب المساواة وحقوق العمال في المشروعات العسكرية
الظروف التي يعمل بها المجندون والعاملون في مشروعات الجيش مختلفة جذريًا عن تلك التي يناضل العمال للتمتع بها في قطاعات الدولة أو القطاع الخاص التقليدية.
لا توجد نقابات تمثلهم، ولا حقوق للتفاوض، ولا ضمانات لأجر عادل أو بيئة عمل آمنة. هذه الفجوة الضخمة في الحقوق والظروف القانونية تؤدي إلى تفاقم هشاشة العمل.

وختاما فتصريحات وزير العمل محمد جبران حول انخفاض معدلات البطالة والرؤية المشرقة لسوق العمل في مصر تقدم صورة مثالية لا تعكس عمق المشكلات والتحديات التي تواجه العمال فعليًا.

إن الاستمرار في الاحتكار العسكري الموسع للاقتصاد، غياب تطبيق الحد الأدنى للأجور، ضعف التأمينات الاجتماعية، وارتفاع معدلات الفقر يضع العمال أمام واقع مرير بعيدًا عن أي عدالة أو استقرار.
للتغلب على هذه الأزمات، تحتاج مصر إلى إصلاحات حقيقية تضبط دور الجيش الاقتصادي وتفتح المجال لعمل اقتصادي مدني تنموي مستدام يضمن حقوق كل العاملين ويخلق فرص عمل حقيقية.