في خطوة جديدة ضمن مسلسل أزمة جزيرة الوراق الممتد منذ سنوات، وجه رئيس وزراء السيسي، مصطفى مدبولي، مؤخراً بتسليم أكثر من 2000 وحدة سكنية بديلة لمن وصفهم بـ "مستحقيها" من أهالي الجزيرة. وبينما تقدم الحكومة هذه الخطوة على أنها إنجاز في سبيل "تطوير" الجزيرة وتحويلها إلى مجتمع عمراني حضاري ، يرى معارضون ونشطاء أنها مجرد حلقة أخرى في مخطط ممنهج للاستيلاء على أراضي الجزيرة ذات الموقع الاستراتيجي، وتهجير أهلها قسريًا، وتقديمها كفريسة سهلة للاستثمارات الأجنبية، أو ما بات يُعرف شعبيًا بـ"الرز الخليجي".

 

روايتان متناقضتان: "التطوير" مقابل "التهجير"

 

تصر حكومة مدبولي على أن خطتها تهدف إلى الارتقاء بالجزيرة التي تصفها بالعشوائية، عبر إنشاء "مجتمع عمراني حضاري متكامل". وتؤكد في بياناتها الرسمية حرصها على تقديم "تعويضات مُرضية" للأهالي، سواء كانت مالية أو عينية عبر وحدات سكنية بديلة. إلا أن هذه الرواية الرسمية تتصادم بشكل مباشر مع واقع الأهالي وشهاداتهم، الذين يعتبرون ما يحدث "إخلاءً قسريًا" و"استيلاءً على أراضيهم" التي يملكونها بوثائق تاريخية.

 

منذ بدء الأزمة قبل سنوات، تحولت الجزيرة إلى ساحة صراع مفتوح بين الدولة وسكانها. يصف الأهالي المشهد بأنه "حصار"، حيث تحيط قوات الأمن مداخل الجزيرة ومراسيها، وتفرض قيودًا على حركة الدخول والخروج، في محاولة لكسر صمودهم وإجبارهم على قبول خيارات الحكومة. هذا المنطق، الذي يصفه منتقدون بـ "منطق القوة الغاشمة"، لا يترك للأهالي خيارًا حقيقيًا، بل يضعهم بين مطرقة التعويضات التي يرونها غير عادلة وسندان التخلي عن أرضهم وتاريخهم.

 

الهدف الحقيقي: استثمارات على أنقاض بيوت الأهالي

 

تكمن جذور المعارضة الشرسة للمشروع في انعدام الثقة بنوايا الحكومة. فالمصطلح الساخر "الرز الخليجي" لم يأتِ من فراغ، بل يعكس قناعة واسعة بأن الهدف من إخلاء جزيرة الوراق ليس تحقيق المصلحة العامة، بل تحويلها إلى مشروع استثماري ضخم يستهدف الأثرياء والمستثمرين الأجانب، وتحديدًا من منطقة الخليج. تقع الجزيرة في قلب نيل القاهرة، مما يجعلها قطعة أرض لا تقدر بثمن، والمخططات الحكومية المسربة سابقًا تحت اسم "مدينة حورس" تشير إلى تحويلها لمنطقة أبراج وخدمات فاخرة لا مكان فيها للسكان الأصليين من الصيادين والمزارعين.

 

هذا التوجه يندرج ضمن سياسة اقتصادية أوسع تتبعها حكومة مدبولي، قائمة على بيع الأصول والأراضي المصرية مقابل الحصول على عملة صعبة من دول الخليج لمواجهة الأزمات الاقتصادية المتلاحقة. وفي هذا السياق، لا يُنظر إلى سكان الوراق كمواطنين أصحاب حقوق، بل كعقبة في طريق صفقة استثمارية مربحة. يصبح "التطوير" غطاءً لعملية استيلاء كبرى، ويتم تبرير تهجير الآلاف من المواطنين تحت شعارات براقة مثل "القضاء على العشوائيات" و"بناء مجتمع حضاري".

 

صمود مستمر في وجه الضغوط

 

رغم الحصار الأمني والقضائي والضغوط المستمرة منذ عام 2017 ، يواصل أهالي جزيرة الوراق صمودهم ورفضهم التنازل عن أرضهم. لقد تحولت قضيتهم إلى رمز للصراع بين رؤية الدولة للتنمية القائمة على الاستثمار الأجنبي، وحق المواطن في السكن والأرض. فبينما تتحدث الحكومة عن تسليم 2000 وحدة سكنية كدليل على حسن نواياها، يرى الأهالي ومنظمات حقوقية أن هذه الوحدات ليست سوى جزء من آلية الإحلال والتهجير، وليست حلاً يحفظ حقوقهم.

 

في المحصلة، يمثل إصرار الحكومة على خطتها لجزيرة الوراق، رغم كل الانتقادات والرفض الشعبي، تجسيدًا لأزمة أعمق تتعلق بأولويات الدولة. فالتركيز على جذب "الرز الخليجي" يفوق، في نظر النظام، أهمية الحفاظ على النسيج الاجتماعي وحقوق المواطنين البسطاء. وتبقى جزيرة الوراق شاهدًا على سياسة تفضل بيع الأصول على حماية الأصول الإنسانية، وتستبدل تاريخ وهوية مكان بمشاريع استثمارية لامعة، لكنها بلا روح.