في قلب حي السيدة زينب العريق، تتجسد واحدة من أكثر صور التناقض إيلاماً في المشهد العمراني المصري. فبينما تقف عمارات "روضة السيدة 2" شامخة بألوانها الزاهية وتشطيباتها الحديثة، يعيش مئات الأسر الذين أُخرجوا من منازلهم القديمة في انتظار تسلم شققهم الجديدة منذ ما يقرب من خمس سنوات، عالقين بين وعود رسمية لم تُنفّذ وبيروقراطية حكومية أضاعت حقهم في السكن والكرامة.
وعد بالتطوير تحول إلى انتظار مفتوح
بدأت قصة المعاناة في ديسمبر 2020، عندما أخلت السلطات منازل سكان منطقة "الطيبي" باعتبارها منطقة غير آمنة، على وعد بإعادتهم سريعاً بعد الانتهاء من تطوير الموقع وتحويله إلى مشروع حضاري جديد على غرار "روضة السيدة 1". لكن ما كان يفترض أن يكون نموذجاً يحتذى به في "التطوير العمراني" تحول إلى رمز للفشل الإداري والتجاهل الاجتماعي.
فالمشروع الذي نفذه صندوق التنمية الحضرية بالتعاون مع محافظة القاهرة، يضم أكثر من 570 وحدة سكنية مكتملة البناء والتشطيب منذ أكثر من عام، إلا أن الأهالي لا يزالون ينتظرون "قرار التسليم" الذي لم يصدر حتى الآن. وبينما تبادل الجهات الرسمية الاتهامات بشأن المسؤولية عن التأخير، يدفع المواطنون ثمن هذا العبث الإداري من حياتهم ومدخراتهم.
أبواب مغلقة ووعود مكررة
رغم انتهاء كل أعمال البناء ورصف الشوارع وتنسيق الموقع العام، فوجئ الأهالي عند محاولتهم زيارة المشروع بأن قوات الأمن تمنعهم من دخوله، في مشهد يعكس مدى الفجوة بين الحكومة والمواطنين الذين وثقوا بوعودها. ووسط تضارب التصريحات، يؤكد صندوق التنمية الحضرية أن "المحافظة لم تتسلم المشروع بعد"، بينما تلتزم الأخيرة الصمت، تاركة الأسر في حيرة وإحباط.
على مدار ثلاث سنوات، توالت التصريحات الرسمية حول مواعيد التسليم. ففي 2022 قيل إن التسليم سيكون في مارس 2023، ثم بعد شهر رمضان 2024، ثم "قريباً جداً" في يوليو من العام نفسه. ومع دخول أكتوبر 2025، لا يزال المشهد على حاله: مبانٍ جاهزة بلا سكان، وأسر مشردة في انتظار "مفتاح الوعود".
1200 جنيه بدل إيجار.. سخرية من الواقع
الأكثر قسوة في المشهد هو العبء المالي الذي يواجهه الأهالي. فالحكومة تصرف لهم بدل إيجار لا يتجاوز 1200 جنيه شهرياً، في وقت تتراوح فيه إيجارات الشقق الصغيرة في القاهرة بين 5000 و7000 جنيه. هذا المبلغ الهزيل لا يغطي حتى ثمن غرفة في منطقة متواضعة، مما يدفع الأسر إلى الاستدانة أو الانتقال إلى مساكن غير آدمية بانتظار الفرج.
وبينما تتحدث الحكومة عن "رؤية مصر 2030" و"الحق في السكن الملائم"، يعيش هؤلاء المواطنون واقعاً مغايراً تماماً، يختزل فجوة ضخمة بين الخطاب الرسمي والممارسة الفعلية.
البيروقراطية تبتلع العدالة الاجتماعية
ما حدث في "روضة السيدة 2" ليس مجرد تأخير في مشروع عمراني، بل تجسيد لفشل هيكلي في إدارة الملفات الخدمية. فالصراع بين صندوق التنمية ومحافظة القاهرة حول "محاضر التسليم" يعكس نمطاً متكرراً من التضارب بين مؤسسات الدولة، حيث تضيع حقوق المواطنين وسط الأوراق والمكاتبات الرسمية.
لقد أنجزت الحكومة الجانب الأسهل من المشروع — البناء والتصوير الإعلامي — لكنها أخفقت في الجزء الأهم: إعادة البشر إلى بيوتهم. فالمباني لا تسكن وحدها، والمشاريع لا تكتمل إلا حين يجد المواطن فيها راحته وأمانه. أما اليوم، فقد تحولت هذه العمارات إلى شاهد صامت على البيروقراطية واللامبالاة التي تميز أداء مؤسسات الدولة.
صرخة سكان الطيبي: نريد حقنا في العودة
لم يعد سكان "الطيبي" يطالبون بامتيازات أو دعم إضافي، بل فقط بحقهم الطبيعي في العودة إلى منازلهم التي وُعدوا بها. وبعد سنوات من الانتظار، نظموا وقفات احتجاجية في يونيو ويوليو 2025 أمام مقر المشروع، حاملين لافتات تصف ما حدث بـ"شقق الوعود الكاذبة".
إن قصة "روضة السيدة 2" تكشف الوجه الحقيقي لسياسات "التطوير" التي تتحدث عنها الحكومة: مشاريع تُدار للإعلام لا للناس، وشعارات عن "الحياة الكريمة" تغطي واقعاً من التهميش والتجاهل.
في النهاية، لم يعد السؤال متى يُفتح المشروع، بل هل تملك الحكومة الإرادة السياسية لإعادة الحق لأصحابه؟ أم سيبقى المشروع نموذجاً آخر لـ"تجميل الصورة" بينما المواطن يدفع الثمن وحده — إيجاراً وقلقاً واغتراباً في وطنه؟