في مفارقة صارخة، وبينما تحتفي الأبواق الإعلامية الرسمية بتولي مصر رئاسة المنظمة الدولية للتقييس "أيزو"، واصفة إياه بـ"الإنجاز التاريخي" الذي جاء ثمرة لتوجيهات السيسي والفريق كامل الوزير تهدف لتحسين "جودة حياة المواطن"، يغرق هذا المواطن نفسه في مستنقع من المنتجات رديئة الجودة والخدمات المنهارة.
إنها "جودة" شكلية للاستهلاك الخارجي، وبرواز لامع يعلقه النظام على حائط إنجازاته الوهمية، بينما يئن الجدار نفسه من التصدعات. فكيف يمكن لدولة تتفشى فيها فضائح الغش التجاري، وتنهار منظومتها الرقابية، وتُباع فيها "شهادات الأيزو" على الأرصفة، أن تقود العالم في معايير الجودة؟ إنه احتفال لا يعكس إلا عمق الفجوة بين بروباغندا النظام وواقع المواطنين المرير.
وأعلنت وزارة الصناعة عن فوز مرشحها، الدكتور خالد حسن صوفي، رئيس الهيئة المصرية العامة للمواصفات والجودة، برئاسة المنظمة الدولية للتقييس "أيزو" (ISO). جاء هذا الفوز بعد منافسة انتخابية حصل فيها صوفي على تأييد 63 دولة، متفوقاً على منافسه الأرجنتيني الذي نال 49 صوتاً. وبموجب هذا الانتصار، سيتولى صوفي رئاسة المنظمة لمدة ثلاث سنوات، تبدأ من عام 2026 وتنتهي في عام 2028.
ويُعد هذا الفوز سابقة تاريخية، حيث أصبح الدكتور خالد صوفي أول شخصية عربية وثاني شخصية إفريقية تتولى هذا المنصب الرفيع منذ تأسيس المنظمة التي تتخذ من جنيف مقراً لها عام 1947 وتضم في عضويتها 174 دولة.
فجوة الثقة: وعود "الأيزو" تخاصم تجارب السوق
لا يحتاج المواطن المصري إلى تقارير دولية ليقيّم جودة ما يستهلكه، فتجربته اليومية هي المقياس الأكثر صدقاً. من السلع الغذائية "تحت السلم" التي تملأ الأسواق وتتسبب في كوارث صحية، إلى الأجهزة الكهربائية التي لا تعمّر طويلاً، وقطع غيار السيارات المقلدة التي تحصد الأرواح على الطرقات، وصولاً إلى مواد البناء المغشوشة في مشاريع الإسكان. هذه ليست حوادث فردية، بل أصبحت هي القاعدة.
ويرى الخبير الاقتصادي ممدوح الولي أن "الحديث عن الجودة في ظل تراجع القدرة التنافسية للمنتج المصري وارتفاع معدلات الغش التجاري هو نوع من الخداع". ويضيف: "الحصول على منصب دولي شرفي لا يغير من حقيقة أن السوق المصرية تفتقر إلى آليات رقابة حقيقية وفاعلة، وأن المستهلك هو الضحية الأولى لغياب هذه المنظومة".
النفاق السياسي: خطاب للاستهلاك الخارجي
تأتي تصريحات رئيس هيئة المواصفات والجودة، خالد صوفي، لتربط "الإنجاز" بتوجيهات رئاسية، في مشهد متكرر من "التطبيل" الذي يهدف إلى تلميع صورة النظام لا خدمة المواطن. إنها محاولة لتصدير صورة وهمية عن دولة تهتم بالجودة، بينما الواقع الداخلي يفضح العكس تماماً.
يعلق الأكاديمي مؤمن فندي على هذه الظاهرة قائلاً: "النظام الحالي بارع في تسويق نفسه للخارج عبر مناصب وشهادات دولية لا معنى لها على أرض الواقع. رئاسة 'أيزو' لن تطعم جائعاً ولن تمنع بيع سلعة فاسدة. إنها بروباغندا سياسية بحتة هدفها إضفاء شرعية دولية على نظام يفتقر للشرعية الداخلية".
منظومة الرقابة: جهاز المواصفات في قفص الاتهام
يثير فوز رئيس هيئة المواصفات والجودة بهذا المنصب تساؤلاً مشروعاً: ماذا قدمت هيئته للسوق المصرية؟ وأين كان دورها في وقف سيل المنتجات المغشوشة التي تهدد سلامة المصريين؟ إن الجهاز المسؤول عن وضع المعايير والرقابة عليها هو نفسه جزء من المشكلة، إما بالعجز أو بالتواطؤ.
يؤكد الباحث أحمد فؤاد أن "منظومة الرقابة في مصر مخترقة وتعاني من الفساد وضعف الإمكانيات. لا يمكن أن نتحدث عن جودة حقيقية بينما يمكن لأي مصنع 'تحت السلم' أن يعمل لسنوات دون حسيب أو رقيب. المنصب الدولي هنا يصبح مجرد ديكور يخفي وراءه انهياراً كاملاً لنظام الرقابة على الأسواق".
"جودة الحياة": وهم يتبدد أمام الخدمات المنهارة
إن الادعاء بأن هذا المنصب يخدم "جودة حياة المواطن" هو الأكثر إثارة للسخرية، خاصة عند النظر إلى حال الخدمات العامة. فالمستشفيات الحكومية تحولت إلى أماكن لنشر العدوى، والمدارس تفتقر لأبسط المقومات التعليمية، والمرافق العامة منهارة.
يقول الناشط السياسي أحمد لطفي: "أي جودة حياة يتحدثون عنها والمواطن يكافح يومياً للحصول على دواء أو مقعد لائق لابنه في مدرسة؟ الربط بين منصب دولي في 'التقييس' وبين حياة الناس هو استخفاف بعقول المصريين. الجودة الحقيقية تبدأ من رغيف الخبز النظيف ومياه الشرب الصالحة والخدمة الصحية الآدمية، وكلها غائبة".
الأولوية المفقودة: مكاسب شخصية أم مصلحة وطنية؟
في النهاية، يبدو أن الأولوية لم تكن يوماً للمواطن، بل لتحقيق مكاسب شخصية ودولية تخدم أفراد النظام وتعزز صورته. فبينما يُحتفل بالمنصب الجديد، تستمر معاناة الملايين مع منتجات وخدمات لا تعرف للجودة معنى.
يختصر المتحدث الإعلامي السابق د. مراد علي المشهد قائلاً: "هذا الإنجاز يخدم سيرة النظام الذاتية، لا سيرة المواطن. إنه يندرج ضمن سياسة 'الإنجازات الشكلية' التي لا يلمسها المواطن في حياته. حين تصبح شهادة الأيزو أهم من صحة الناس، وحين يصبح المنصب الدولي أولوية على الرقابة الداخلية، نكون أمام نظام فقد بوصلته الأخلاقية والوطنية".
شهادة على الحائط أم إصلاح على الأرض؟
ستبقى رئاسة مصر لـ"أيزو" مجرد شهادة أخرى معلقة على حائط إنجازات النظام الوهمية، ما لم تترجم إلى إجراءات حقيقية وصارمة على الأرض. فالمناصب لا تصنع الجودة، بل تصنعها الإرادة السياسية الحقيقية، والرقابة النزيهة، واحترام حق المواطن في الحصول على منتج آمن وخدمة كريمة. وبدون ذلك، سيظل الاحتفال اليوم مجرد فصل جديد في مسرحية هزلية، بطلها "التطبيل" وضحيتها المواطن.