عمر عبد الرازق

صحفي وباحث

 

لا أظن أن السبب الرئيسي لصدمة غالبية المصريين تجاه سرقة قطعتين أثريتين من أماكن حفظهما مؤخرا يعود فقط إلى الحزن على ضياع كنوز تاريخية لا تقدر بمال. لكن ما يصدم هؤلاء وأنا منهم هو سرقة الآثار من الأماكن المخصصة لحمايتها، وعلى أيدي أشخاص من المفترض أنهم يعرفون قيمتها جيدا.

 

فحين تسرق إخصائية في ترميم الآثار إسورة ذهبية تاريخية من المتحف الوطني، وحين تختفي لوحة جدارية من مخزن آثار مغلق، أو كما قيل مقبرة تاريخية مغلقة في سقارة، فهذا ما يؤكد مخاوف كثيرين من أن يكون "حاميها حراميها"، وأن ما يظهر من السرقات على السطح هو فقط رأس جبل الجليد العائم لأن القاع قد يخفي كثيرا.

 

في الحادثة الأولى كانت الرواية الأمنية مهلهلة وأشبه بالكوميديا السوداء، فخبيرة الترميم لا تعرف قيمة الإسورة التي سرقتها، بأي مسوغات إذن حصلت على وظيفتها؟ ورغم أن الإسورة ذهبية فقد باعتها لتاجر فضيات في منطقة شعبية واتضح أيضا أن التاجر "غشيم"، حسب الرواية ذاتها، فباعها لتاجر أكبر، الذي اتضح أنه أيضا "غشيم" ولم يعرف قيمتها، فباعها لمسبك ذهب على أنها ذهب قديم رخيص.

 

حسب هذه الرواية تحللت الجثة، الأسورة، في الأحماض/المسبك، وليس أمام السلطات الرسمية سوى اعتقال الفاعلين الغُشماء جميعا واسترداد قيمة الصفقة "واتفضلوا الفلوس اهي"، 4 آلاف دولار بالتمام والكمال. وبضبط المتهمين وقيمة المسروقات حسب توجيهات العقيد فلان بتعليمات من اللواء فلان، تكون القضية قد أغلقت.. فالسلطات الأمنية لديها مشاغل آنية أكبر من البحث عن إسورة فرعون مات من ثلاثة آلاف سنة، والحي أبقى من الميت.

 

ثم يُماط اللثام خلال أقل من شهر عن سرقة أخرى، وهذه المرة من قلب منطقة سقارة وفي مقبرة وزير الملك تيتي (2345-2333 ق.م) الذي ينتمي للأسرة الخامسة، وهي عبارة عن جدارية بمساحة 64 سنتم في 40 سنتم، قد لا يهم حجم اللوحة بما هو معيار للسرقة، لكنه مهم هنا لأنها ليست إسورة قد يضعها أحدهم في جيبه. وحسب رواية الأمين العام للمجلس الأعلى للآثار فإن المقبرة التي سُرقت منها اللوحة كانت مغلقة منذ عام 2018، وتبينت السرقة فقط عندما فتحت بعثة أثرية المقبرة وجردت محتوياتها.

من المؤكد أن السؤال المهم هنا هو، كم قطعة أثرية سُرقت من المتاحف والمقابر الأثرية في بلد يعوم في بحر من الآثار؟ هل توجد قاعدة بيانات وصور للقطع الأثرية؟ هل يوجد نظام حصر دوري يحدد الموجود والمفقود، والأصلي والمزيف؟ هل يمكن للحكومة أن تقوم بهذا وتقول صراحة: من سرق ماذا وكيف؟ وللتأكيد، لم تقتصر سرقة آثار مصر ونهبها على عصر محدد، فالمصريون الذين حطت رحالهم في أوروبا وأميركا قد يشعرون بالفخر حين يرون مسلات أجدادهم الشاهقة في الميادين، أو حين يكتشفون أن الجزء الأكبر من متاحف العالم الكبرى والصغرى مخصص للآثار المصرية، سيتساءل بعضهم: كيف خرجت كل هذه الكنوز من بلادنا ونحن عنها غافلون، وهل من سبيل لإعادته؟ لكن آخرين سيرون في بقاء الآثار في متاحف الغرب إكراما لها لا تجده في متاحف مصر.

 

وكلا الرأيين يستحق نقاشا معمقا. لكن المثير للقلق هنا هو أن اكتشاف السرقات والنهب يأتي متأخرا جدا، فتجارة الآثار ونهبها وسرقتها وشحنها للخارج هي سر معلن في بر مصر. في قرى الصعيد ونجوعه يجري التنقيب جهارا، وفي أحياء تاريخية بالمدن كذلك، سيتكشف السر عندما تقع مشاحنات بين الشركاء ويسقط قتلى ثم يتبين أن السبب هو خلاف على "لقية" آثار. بعض الخبثاء يقولون إن نهب الآثار في مصر أصبح جريمة منظمة، تعرف بها أجهزة الأمن المحلية وتغض الطرف عنها، فالمجتمع المصري ليس كتوما خاصة عندما يظهر الثراء المفاجئ على بعض الأشخاص.

 

ما يدعم أقوال "الخبثاء" هنا هو القضايا التي ضبطتها السلطات المصرية، أو أقرت بها بعد ضبطها، لتثبت الدولة نفسها أن لا دخانا دون نار، وأنها تجاهلت الدخان عندما أرادت ذلك. في عام 2021 كشفت الأجهزة الأمنية ما سمته بـ"قضية الآثار الكبرى" حيث اتهمت النائب البرلماني علاء حسانين عن دائرة ديرمواس في محافظة المنيا، بتشكيل وإدارة عصابة للتنقيب عن الآثار وتهريبها، واتهمت معه رجل الأعمال حسن راتب، الذي امتلك إمبراطورية أعمال تضم قناة تلفزيونية وجامعة أكاديمية.

 

وأُدين الرجلان وحكم عليهما بالسجن مع آخرين. أما النائب فكان ممثلا لدائرتي، وكان الرجل سخيا كريما يولم للفلاحين الفقراء كل عام ويبني فيلا في قريته وينال عضوية مجلس الشعب ويترأس لجنة الشؤون الدينية ويختص بعلوم الجن والعفاريت. الواجهة لأعماله كانت تجارة الحجر والرخام وبركة "العلم اللدني"، لكن جميع أبناء الدائرة كانوا يعرفون أن الرجل لص أثار يتمتع بحماية من أعلى وحصانة البرلمان التي حصل عليها بأمواله.

 

لم ترغب الأجهزة في رؤية الدخان، الذي يبدو أنه زكم أنوفا عليا بعد سنوات، فكان لابد من إطفائه بعدما تحول الرجل إلى مركز قوة يزوره السفراء الأجانب في قريته.

 

قضية أخرى لم يكن للسلطات المصرية فيها أي فضل، هي حاوية الآثار التي ضبطتها السلطات الإيطالية في عام 2018 بعد خروجها من ميناء الإسكندرية في حقائب دبلوماسية ووصولها بسلام إلى الأراضي الإيطالية وداخلها 23 ألف قطعة أثرية، لا ترهق ذهنك بالتفكير كيف خرجت 23 ألف قطعة بسلام دون أن تسترعي انتباه سلطات الجمارك في المطارات والمنافذ المصرية؟ أعادت إيطاليا المسروقات معززة مكرمة إلى الجانب المصري، وكشفت التحقيقات أنها ليست من ممتلكات المتاحف، ووجهت اتهامات تهريبها إلى بطرس غالي، شقيق وزير المالية المصري الأسبق يوسف بطرس غالي، واثنين آخرين هما قنصل إيطاليا السابق وزوجته.

 

من المؤكد أن هذه القطع هي حصاد النهب والتنقيب غير الرسمي الذي أصبح "جريمة منظمة" لها ممولون وداعمون. حين يتفشى الفقر والجوع والحروب الأهلية في الشرق الأوسط مهد الحضارات وكثير من كنوز التاريخ، فطبيعي جدا أن تصبح آثار الأجداد اقتصادا موازيا من العراق إلى سورية إلى ليبيا إلى اليمن ومصر، صحيح هي أشياء لا تُشترى لا يحصل الفقراء من عائدها على الكثير، لكن الصحيح أيضا أن الجوع كافر، ولابد من سد الذرائع، وعندما يوجد بائعون حتما سيوجد مشترون من المنطقة وخارجها.