تحت وطأة الحزن والغضب، شيّعت قرية منقباد بمحافظة أسيوط أطفالها الخمسة إلى مثواهم الأخير، بعد أن ابتلعتهم ترعة حواس في مشهد مأساوي جديد على طرق الريف المصري المنسية. ما بدا في ظاهره حادثًا عرضيًا، سرعان ما تحول إلى مرآة قاسية تعكس واقع التهميش والإهمال الذي تعانيه القرى، ويفضح عجز الدولة عن حماية أبنائها من الموت اليومي على طرق مهترئة تُعرف بين الأهالي باسم "طرق الغلابة".

 

 

فاجعة على ضفاف "مصرف الموت"

في صباحٍ بدا عاديًا، كان "تروسيكل" متهالك يقل مجموعة من التلاميذ في طريقهم من قرية سلام إلى مدرستهم بمنقباد. وسرعان ما تحوّل الطريق إلى مأتمٍ مفتوح، بعدما انقلبت المركبة وسقطت في الترعة التي يسميها السكان "مصرف الموت". ارتفع عدد الضحايا تدريجيًا إلى خمسة أطفال، آخرهم طفلة لفظت أنفاسها الأخيرة بالمستشفى بعد ساعات من محاولة إنقاذها.

مشاهد الجنازات التي جمعت أسماء مثل "سمر" و"بسملة" و"جنا" و"مليكة"، اختزلت فصول الحزن الجماعي في قرية اعتادت دفن أبنائها ضحايا الإهمال الحكومي أكثر مما اعتادت أفراح المدارس.

التحقيقات الأولية تحدثت عن فقدان السائق السيطرة على عجلة القيادة، لكن حصر المسؤولية في سائق فقير يقود وسيلة نقل بدائية، هو محاولة للهروب من الحقيقة: أن ما حدث نتيجة حتمية لعقود من الإهمال وتجاهل البنية التحتية في الريف، حيث يضطر الأطفال لركوب "التروسيكل" كخيار وحيد للوصول إلى مدارسهم.

 

غضب الأهالي ومبادرات من قلب الفقر

لم ينتظر الأهالي لجان التحقيق ولا وعود المسؤولين. في مشهد يختصر انعدام الثقة في الدولة، بدأ أبناء منقباد بجمع تبرعات لبناء سور خرساني على حافة الترعة، لحماية أطفالهم من مصير مماثل. خطوة بسيطة لكنها تحمل دلالات عميقة: أن الناس باتوا يحمون أنفسهم بأنفسهم بعدما غابت الدولة عن أداء واجبها.

وبينما كانت القلوب تنزف في الجنازات، خرجت تصريحات رسمية باردة: المحافظ "يتابع الموقف"، ومديرية الري "أزالت الحشائش والمخلفات"، بل وذهبت أبعد من ذلك بإلقاء اللوم على الأهالي بزعم أنهم "يلقون القمامة في المصرف"، في تكرارٍ لمشهدٍ مألوف تُحمَّل فيه الضحية مسؤولية الجريمة.

 

إعلام الشيلة الثقيلة.. حين كان الغضب على مرسي والشكر للسيسي

في عام 2012، ومع كارثة قطار أسيوط التي حصدت أرواح أكثر من خمسين طفلًا، تحولت الشاشات المصرية إلى ساحات غضب مفتوح ضد الرئيس الشهيد محمد مرسي، فكانت البرامج تتسابق في جلد الحكومة واتهامها بالعجز، وتتناقل عبارات مثل قول الإعلامية لميس الحديدي "مش قد الشيلة ما تشيلهاش يا دكتور مرسي" وقول عمرو أديب "خمس تلاف يا كافر" كرموز للاحتجاج الشعبي على الإهمال واللامبالاة.

 

 

لكن اليوم، وبعد مرور أكثر من عقد، تتكرر المأساة في منقباد بنفس التفاصيل المروعة: أطفال فقراء، طرق متهالكة، ودماء على الأسفلت، إلا أن الإعلام نفسه بات صامتًا، خانعًا أمام السلطة. لا صراخ في الاستوديوهات، ولا أسئلة عن المسؤول، وكأن حياة الأطفال أصبحت مشهدًا عابرًا في نشرات الأخبار. المفارقة أن من كان يجلد رئيسًا منتخبًا بالأمس، صار اليوم يبرر القتل بالإهمال ويغسل أيدي النظام من الدم، لتبقى الحقيقة الوحيدة أن الفقراء وحدهم يدفعون الثمن، في كل عصر وتحت كل حاكم.

 

"طرق الغلابة": بنية تحتية تقتل أبناءها

حادث منقباد ليس استثناءً، بل هو جزء من سلسلة طويلة من الكوارث المتكررة في قرى مصر، حيث تتحول الطرق إلى مصائد للموت والمواصلات إلى أدوات قتل.

آلاف القرى تعاني من فقر المواصلات وغياب التخطيط، فلا توجد خطوط نقل عامة، ولا مدارس قريبة، ولا جسور أمان على حواف الترع والمصارف. يعتمد السكان على "التكاتك" و"التروسيكلات" والدواب، في ظل غياب تام للرقابة أو البدائل الآمنة.

هذه المركبات غير المرخصة يقودها غالبًا أطفال في سن الدراسة، يتحركون على طرق غير ممهدة وبلا إشارات مرور، لتتحول رحلة التعليم إلى مغامرة يومية بين الحياة والموت.

في المقابل، تنفق الحكومة المليارات على مشروعات عملاقة وطرق فارهة تربط المنتجعات والمدن الجديدة، بينما تظل قرى الصعيد والدلتا خارج خريطة التنمية. تتحدث الدولة عن "الجمهورية الجديدة" و"النهضة الشاملة"، لكن مشاهد الأطفال الغارقين في الترع تفضح زيف الخطاب الرسمي وتكشف أن التنمية في مصر ليست سوى ترفٍ طبقيّ يخدم فئة محددة ويترك الأغلبية على قارعة النسيان.

 

صرخات الأمهات... واتهام صريح للنظام

صرخات أمهات منقباد ودموع آبائهم ليست فقط مأساة إنسانية، بل اتهام مباشر لنظام فشل في أبسط وظائفه: حماية الحياة. فبينما تتحدث الحكومة عن خطط تطوير الريف، لا تزال الطرق بلا إنارة، والمدارس بلا أسوار، والمصارف بلا حواجز، والرقابة بلا وجود.

المأساة، إذن، ليست في "تروسيكل انقلب"، بل في دولة انقلبت على أولوياتها، فاختارت التجميل على حساب الأمان، والمشروعات الدعائية على حساب الإنسان.

ويبقى السؤال الذي يطارد الجميع: كم من طفل يجب أن يغرق بعد حتى تدرك السلطة أن أرواح المصريين ليست أرقامًا في تقارير المرور، بل حق أصيل في الحياة والكرامة؟