في مشهد أثار الرعب في أنحاء شرق القاهرة، دوّت سلسلة انفجارات ضخمة بعد ظهر الاثنين 13 أكتوبر 2025 داخل قاعدة الهايكستب العسكرية، إحدى أكبر المنشآت التابعة للجيش المصري. الانفجارات، التي وصفها البيان الرسمي بأنها “حادث عرضي”، أعادت إلى الواجهة أسئلة مؤجلة حول معايير الأمان داخل المنشآت العسكرية، وغياب الشفافية في إدارة الكوارث التي تمس حياة المدنيين.
 

تسلسل الأحداث: صدمة بعد الظهيرة

في تمام الساعة 1:45 ظهرًا، سُمع دوي انفجار هائل في أرجاء شرق القاهرة، تبين لاحقًا أنه داخل إحدى ورش الأسلحة والذخيرة في قاعدة الهايكستب. دقائق قليلة كانت كفيلة بتحويل المكان إلى مركز لانفجارات متتالية، أحدثت هزة قوية شعر بها سكان مدن الشروق والعبور وبدر والتجمع الأول والسلام، بل امتد صداها إلى أطراف القاهرة الجديدة.

البيان الرسمي الصادر عن المتحدث العسكري، العميد أركان حرب غريب عبد الحافظ، أشار إلى أن الانفجار كان “مفاجئًا” ونتج عنه “سلسلة من الانفجارات المتتابعة”، دون توضيح طبيعة المواد المتفجرة أو كمياتها. غير أن شهود عيان تحدثوا عن موجات صوتية هائلة تسببت في اهتزاز النوافذ وتحطم زجاج بعض الشرفات، وسط تصاعد أعمدة دخان سوداء شوهدت على بعد كيلومترات من القاعدة.
 

الرواية الرسمية: “حادث فني” روتيني
وفقًا للتصريحات العسكرية، فإن ما حدث لم يكن نتيجة هجوم أو عمل تخريبي، بل “حادث عرضي” وقع أثناء قيام وحدة فنية بتفكيك “عبوات ناسفة من مخلفات قديمة”.

لكن هذه الرواية، رغم طمأنتها الشكلية، تثير تساؤلات منطقية: كيف يمكن أن تتحول عملية فنية روتينية إلى سلسلة انفجارات بهذا الحجم، في منشأة يفترض أنها مؤمنة وتخضع لأعلى درجات السلامة؟

هذه ليست المرة الأولى التي تقع فيها حوادث “عرضية” داخل منشآت عسكرية مصرية. ففي الأعوام الماضية، سُجلت عدة انفجارات مشابهة في مخازن ذخيرة أو ورش تابعة للجيش، وغالبًا ما تُختتم جميعها بالعبارة ذاتها: “لا شبهة عمل عدائي”. النتيجة واحدة دائمًا — لا محاسبة، ولا شفافية، ولا تغيير في منظومة الأمان.
 

الانعكاسات الميدانية: خوف وارتباك في شرق القاهرة
المشهد في محيط الحادث كان أقرب إلى حالة طوارئ غير معلنة.

المواطنون هرعوا إلى الشوارع في رعب، بينما تداولت صفحات التواصل الاجتماعي مقاطع تُظهر تصاعد الدخان الكثيف. ومع غياب أي توضيح فوري من الجهات الرسمية، سادت الشائعات لبضع ساعات، بين من نسب الانفجار إلى “تفجيرات محاجر” ومن زعم أنه ناجم عن “اختبارات المونوريل”. لم يتحرك المسؤولون لشرح ما يجري إلا بعد مرور وقت طويل، وكأن حياة الناس مجرد تفصيل جانبي في المشهد.

تقول “إيمان.س”، وهي من سكان مدينة بدر: “الانفجار كان مهول، الزجاج اتكسر في البلكونة والأطفال صرخوا من الخوف. محدش عرف إيه اللي حصل غير بعد ما شوفنا الدخان على الإنترنت.”

هذا الخوف الشعبي لم يكن مجرد رد فعل طبيعي، بل نتيجة مباشرة لغياب الثقة في البيانات الحكومية التي تأتي عادة لتسكين الغضب، لا لتفسير الحقيقة.
 

استجابة باهتة ولجان تحقيق بلا نتائج
أعلن المتحدث العسكري أن الحادث تمت السيطرة عليه، وأن فرقًا متخصصة باشرت تنفيذ إجراءات وقائية وفنية لضمان السلامة. كما تم تشكيل “لجان فنية للتحقيق”، وهي الجملة المعتادة في كل أزمة مشابهة. لكن التجارب السابقة تؤكد أن نتائج هذه اللجان نادرًا ما تُعلن، وإن أُعلنت فهي تأتي بعبارات فضفاضة لا تحدد مسؤولًا ولا تشير إلى قصور مؤسسي.

في دولة تُدار فيها معظم المرافق الحيوية بسرّية عسكرية مطلقة، يصبح الحديث عن “تحقيقات مستقلة” أو “محاسبة” أقرب إلى التمنّي. فالحكومة، التي تفرض قبضتها على الإعلام، لم تسمح لأي جهة مدنية أو صحفية مستقلة بالوصول إلى موقع الحادث أو جمع شهادات من العاملين في القاعدة.
 

نقد بنيوي: دولة بلا معايير سلامة ولا شفافية
ما جرى في الهايكستب ليس حادثًا معزولًا، بل انعكاس لحالة عامة من الإهمال والبيروقراطية في منظومة الدولة المصرية، حيث تدار المنشآت العسكرية والاقتصادية في غياب كامل للرقابة المدنية.

إن استمرار مثل هذه الحوادث “العرضية” يكشف أن الخطر لا يكمن في القنبلة التي انفجرت، بل في النظام الذي لا يتعلم من انفجاراته المتكررة، ولا يعترف بمسؤوليته أمام المواطنين.

فالحديث عن “تفكيك ذخائر قديمة” لا يبرر سقوط نوافذ مدنيين على بُعد عشرات الكيلومترات من القاعدة. والمسؤولية لا تُقاس بعدد الضحايا فقط، بل بمدى احترام الحكومة لحق الناس في الأمان والمعلومة.

لقد حاولت البيانات الرسمية احتواء الغضب بإغلاق القصة في ساعات، لكن الانفجار الأكبر ظل معنويًا: انفجار الشك في مصداقية مؤسسات الدولة، التي ما زالت تتعامل مع الكوارث بعقلية الإنكار والتعتيم.

وأخيرا فإن حادث الهايكستب ليس مجرد خلل فني في منشأة عسكرية، بل مرآة لعطب أعمق في إدارة الدولة المصرية — دولة تُخفي أكثر مما تُعلن، وتبرر أكثر مما تُصلح، تاركة مواطنيها يتنفسون الخوف في كل مرة يهتز فيها الزجاج دون تفسير مقنع.