بينما تتحدث حكومة السيسي برئاسة مصطفى مدبولي عن خطط "تطوير شاملة" و"رقمنة ذكية" في منظومة الطوارئ، يواجه العاملون في هيئة الإسعاف المصرية واقعاً مغايراً تماماً. خلف الشعارات الرسمية والبيانات المتفائلة، تتكشف أزمة هيكلية ومادية عميقة تهدد حياة المواطنين وتستنزف طواقم الإسعاف العاملة في ظروف وصفتها مصادر ميدانية بأنها "لا إنسانية".
فما بين سيارات متهالكة، ونقص حاد في المعدات والأفراد، وتدني الأجور، تحولت مهمة إنقاذ الأرواح إلى مجازفة يومية محفوفة بالخطر.
فجوة صارخة بين وعود التطوير وواقع الانهيار
تؤكد الحكومة أن عام 2025 سيكون "عاماً فارقاً" في تاريخ الإسعاف المصري، متحدثة عن "رقمنة الأسطول" وربطه بغرف تحكم ذكية، وافتتاح مبنى إداري جديد بتكلفة بلغت 400 مليون جنيه. كما تشير الأرقام الرسمية إلى تخصيص 42.5 مليار جنيه لهيئة التأمين الصحي في موازنة 2024/2025، في إطار ما تصفه بـ"الاهتمام غير المسبوق بالقطاع الصحي".
لكن خلف هذه الوعود المكررة، تتراكم الحقائق القاتمة: أسطول الإسعاف الذي يضم نحو 3300 سيارة فقط لا يغطي سوى نصف الحاجة الفعلية تقريباً، بينما تؤكد تقديرات ميدانية أن مصر تحتاج إلى أكثر من 2080 سيارة إضافية للوصول إلى الحد الأدنى الموصى به من منظمة الصحة العالمية.
حتى السيارات الموجودة تعاني من تهالك ميكانيكي ونقص التجهيزات الأساسية، ما يجعل كثيراً منها مجرد وسيلة نقل وليست وحدة طبية متكاملة.
وبينما تُنفق الحكومة الملايين على مبانٍ ذكية ومؤتمرات استعراضية، تظل الاحتياجات الحيوية على الأرض مهمَلة، من أجهزة الإنعاش القلبي وأسطوانات الأكسجين إلى أبسط أدوات الطوارئ التي يفترض أن تكون متوفرة في كل سيارة إسعاف.
صرخات المسعفين: تعب، عجز، ولا عدالة
المسعفون أنفسهم يرسمون صورة صادمة لحجم التدهور.
يقول أحمد، سائق إسعاف من الشرقية: "نعمل في ظروف لا يتحملها بشر. أحياناً أتحرك ليلاً بمفردي دون مسعف، وأدفع من جيبي لإصلاح السيارة القديمة التي تجاوزت عمرها الافتراضي."
ويضيف أن ساعات العمل تمتد إلى 16 ساعة متواصلة دون حوافز أو تعويض، وسط غياب أي تأمين حقيقي يحميهم من الاعتداءات المتكررة من أهالي المرضى الغاضبين من التأخير.
أما حسام، مسعف بالقاهرة، فيكشف أن "الكثير من البلاغات نصل إليها بعد فوات الأوان"، مشيراً إلى أن النقص الحاد في الأفراد يجعل بعض المحافظات تعمل بأقل من نصف قوتها التشغيلية.
ويؤكد أن العاملين يضطرون لشراء الزي الرسمي والمستلزمات الطبية من مالهم الخاص في ظل غياب التدريب المستمر أو الدعم المادي.
وتروي منى، موظفة بغرفة الاتصالات المركزية، عن ضغط نفسي هائل قائلة: "أتلقى مئات الاستغاثات يومياً وأكرر عبارة (سيتم الوصول في أقرب وقت) وأنا أعلم أن السيارة قد لا تأتي أبداً."
أما طارق من أسيوط، فيقول إن العمل في المناطق الريفية "أشبه بمهام انتحارية"، فالطرق غير ممهدة، والسيارات متهالكة، والرواتب لا تكفي لتغطية أبسط احتياجات الحياة.
أين ذهبت أموال التطوير؟
مع كل هذه الشهادات، يبرز السؤال الذي يتهرب منه المسؤولون: أين تذهب المليارات المخصصة لتطوير منظومة الإسعاف؟
إذا كانت الحكومة تتحدث عن خطط استثمارية طموحة وميزانيات متزايدة، فلماذا لا يشعر بها العاملون في الميدان أو المواطنون الذين ينتظرون الإسعاف في لحظات الخطر؟
يرى مراقبون أن الأزمة ليست في نقص التمويل بل في سوء التوزيع والفساد الإداري، حيث تُصرف الأموال على مشاريع شكلية بدلاً من توجيهها إلى تدريب الكوادر وتجهيز السيارات وصيانة المعدات.
ويذهب بعض الخبراء إلى أن الحكومة تسعى إلى تجميل الصورة الإعلامية بإطلاق مصطلحات مثل "التحول الرقمي" و"المبنى الذكي"، بينما تعجز عن توفير أبسط مقومات العمل الميداني التي تحمي حياة المرضى والمسعفين على حد سواء.
أزمة إدارة لا أزمة موارد
في نهاية المطاف، تكشف أزمة هيئة الإسعاف عن نمط حكومي متكرر في التعامل مع القطاعات الحيوية: مشاريع دعائية بلا نتائج ملموسة، وقرارات مركزية تتجاهل واقع الميدان، وانفصال كامل بين صناع القرار والعاملين الحقيقيين في الخطوط الأمامية.
لقد تحولت هيئة الإسعاف، التي يفترض أن تكون رمزاً للجاهزية الوطنية في مواجهة الطوارئ، إلى نموذج مصغر لأزمة الإدارة العامة في مصر.
فبينما يُنفق الملايين على لافتات التطوير ومؤتمرات الدعاية، يبقى المسعف والمريض أكبر الخاسرين في معركة عنوانها "الإهمال"، وضحاياها بشر يُفترض أن الدولة وجدت لحمايتهم، لا لتتركهم يصارعون الموت في سيارات صدئة وشوارع بلا إنقاذ.