وائل قنديل

كاتب صحافي مصري

 

قالوا إنّ للنجاح ألف أب وللفشل أبًا واحدًا، وكذلك في الحروب، يكثر المدّعون والمنتحلون والمهرّجون عند الانتصار، أمّا في الانكسار فكلّ السكاكين توضع على رقبة واحدة. ووسط هذه الاحتفالية الصاخبة بالإعلان عن وقف العدوان على الشعب الفلسطيني في غزّة من المهم التذكير بأنّ هذا الشعب، بصموده وثباته وتشبّثه بالبقاء على أرضه المُحترقة وخيامه المُمزّقة، وحده صانع هذه الملحمة، ملحمة الانتصار على العدم والفناء، هو صاحب الفضل على نفسه، وعلى الآخرين.

 

 من المهم كذلك التذكير بأنّ إنهاء المعارك لا يعني انتهاء الحرب، وحسم القضية، وفق رؤية دونالد ترامب والعاملين عليها والمشتغلين بها، مع التسليم بحقّ الابتهاج بتوقّف القتل والحرق والإجرام الصهيوني المُتواصل، من دون توقّف 780 يومًا حافلة بكلّ فظائع حروب الإبادة والتجويع والنزوح، ارتكبها الاحتلال الإسرائيلي، الذي نُذكِّر مجدّدًا بأنّ اسمه العدو الصهيوني، كما أنّ غزّة اسمها مدينة المقاومة والصمود في  فلسطين العربية، وأنّ الصراع صراع وجود وليس مجرّد "احتقان" بين جيران، كما سبق لمنتحلي صناعة الهدنة أنْ صوّروه في ذروة الإجرام الإسرائيلي، كما أنّ هذا المشهد الباهر في شرم الشيخ، والذي يرى غير طرف أنّه إنجازه، ما كان ليتشكّل لولا مفردة خالدة، سرمدية، اسمُها "المقاومة"، هي التي صنعت ببسالتها المعادلة التي تبلورت في صورة اتفاق الآن.

 

هل هذا الذي جرى في شرم الشيخ أفضل ما يمكن الحصول عليه من أجل غزّة وفلسطين؟ بالطبع، لا، لكنه جيّد ومُهم بالنظر إلى أنّ الشعب الفلسطيني في غزّة سيعرف الحياة العادية من جديد، الحياة كما يعيشها البشر، والأهم أنه لا يزال شعبًا واحدًا مُتماسكًا، مُتشاركًا في كلّ كسرة خبز وكلّ حبّة رمل وكلّ دمعة على شهيد، وكلّ آهة ألم، وكلّ اعتزاز بأنّه يُقاوم الإبادة والمحو.

 

هل تعني هذه المشاهد حلّ القضية، على الطريقة الأميركية؟ بكلّ تأكيد لا؟ فكلّ ما حدث تأجيل القضية إلى جيل قادم، جيل فلسطيني يرضع حلم تحرير الأرض منذ ولادته، ويبدع في إيجاد طرائق النضال والكفاح المشروع وصولًا إلى الغاية. أما الذين يبيعون الأوهام المُعتّقة منذ "كامب ديفيد" الأولى عن التعايش والتطبيع والسعادة لشعوب المنطقة، فإنّهم لا يفعلون أكثر من ترديد أغنياتٍ قديمة ومهجورة، كُتبت بابتذال وخفّة وصارت مُثيرة للضحك على زمن  السلام الزائف الضائع الفاسد الذي لم يبق منه سوى صور أنور السادات وبيغن وكارتر، ثم لاحقًا حسني مبارك ورابين وياسر عرفات. مشاهد مصنوعة في "هوليوود" لم توقف عدوانًا ولم تُرجع أرضًا، فهذه المنطقة طوال تاريخها لم تعرف سوى شعب واحد، شعب عربي تختلف لهجاته ولكناته ودياناته، لكنه يبقى سبيكة حضارية واحدة أصلية، تنتمي للمكان والزمان، أمّا المجلوبون من شتى أصقاع الأرض فليسوا منها، بل محتلون وغرباء.

 

هذه الكرنفالات الصاخبة التي تراها أمامك الآن تحت عناوين أميركية هي نسخ مكرّرة ممّا جرى في زمن جيمي كارتر وجورج بوش وبيل كلينتون، الذين قالوا، كما قال ترامب، إنّهم صنعوا السلام وحلّوا القضية، بينما الحقيقة الثابتة عبر التاريخ أنّ حسم القضية وحلّها على الوجه الصحيح سيبقى مسؤولية أصحابها المؤمنين بها، من شعبٍ هو  بمعايير التحضّر الإنساني في مقدّمة قائمة الشعوب الأكثر رقيًا في ممارسة الحياة، ومقاومة الفناء... شعب لديه رجال ومشروع مقاومة وطنية، لم يستسلم أمام العدوان الإسرائيلي الأميركي، المدعوم من كلّ أشرار العالم، ولم يرضخ للغطرسة التي بقيت تقول له كلّ يوم إنّ لا سبيل للبقاء على قيد الحياة سوى النزوح والهجرة إلى المجهول وإعلان براءته من المقاومة التي تخوض معركة باسلة ضدّ أحطّ أنواع العسكرية الاستعمارية الاحتلالية المتوحّشة.

 

سلامًا على الشهداء وبردًا وسلامًا على من بقي على أرضه وعلى حلمه، وفي انتظار الجيل الذي بشّر بقدومه أمل دنقل: غدًا سوف يولد من يلبس الدرع كاملةً/ يوقد النار شاملةً/ يطلب الثأرَ/  يستولد الحقَّ/ من أَضْلُع المستحيل.