تتفاقم أزمة سعر صرف الدولار في مصر مع استمرار العجز التجاري وتراجع موارد النقد الأجنبي، في ظل محاولات حكومية متكررة لتثبيت سعر العملة المحلية رسميًا وترويج صورة من "الاستقرار المالي"، بينما تكشف مؤشرات السوق الموازية عن واقع مختلف تمامًا.

وبين البيانات الرسمية والتداولات الفعلية، يظل الجنيه المصري في مواجهة اختبار صعب وسط غياب الإصلاحات الهيكلية وتزايد الضغوط الاقتصادية.
 

العجز التجاري يتفاقم رغم تحسن طفيف في الصادرات
تشير أحدث البيانات الصادرة حتى 8 أكتوبر 2025 إلى أن الواردات المصرية ارتفعت بنسبة 2.4% لتسجل نحو 9 مليارات دولار خلال يوليو الماضي، مقارنة بـ9.2 مليار دولار في يوليو 2024، فيما ارتفعت الصادرات بنسبة 2.9% فقط لتبلغ 3.7 مليار دولار.

ورغم هذا التحسن الطفيف في الصادرات، فإن الفارق الكبير بين حجم الواردات والصادرات يفاقم العجز التجاري ويزيد من الطلب على الدولار الأمريكي، خاصة مع استمرار اعتماد مصر على استيراد السلع الاستراتيجية والمواد الخام والطاقة.

ويشير خبراء اقتصاديون إلى أن استمرار هذا النمط من التجارة غير المتوازنة يجعل الضغط على العملة المحلية مسألة زمنية، في ظل غياب بدائل إنتاجية قادرة على تقليص الفجوة بين الواردات والصادرات.
 

السعر الرسمي مستقر... لكن السوق الموازية تشتعل
في الوقت الذي تواصل فيه البنوك الحكومية إعلان استقرار سعر الدولار عند 47.5 جنيه للشراء و47.63 جنيه للبيع (حتى 8 أكتوبر 2025)، تؤكد مصادر من داخل السوق أن السعر الفعلي في السوق الموازية تجاوز 56 جنيهًا للدولار في بعض المناطق، مع ارتفاع الطلب وشح المعروض.

ويأتي هذا الفارق الكبير نتيجة استمرار القيود على التحويلات الدولارية وصعوبة الحصول على العملة الصعبة عبر القنوات الرسمية، ما يدفع الشركات والمستوردين إلى اللجوء للسوق السوداء لتغطية احتياجاتهم.
ويرى اقتصاديون أن هذا الوضع يخلق "سوقين للعملة" في مصر، الأولى رسمية شكلية تُدار إعلاميًا، والثانية واقعية غير معلنة تتحكم فعليًا في حركة الأسعار والتجارة الداخلية.
 

الحكومة بين التثبيت الإعلامي والواقع الاقتصادي
تتهم أصوات اقتصادية الحكومة المصرية بـ"إدارة أزمة الدولار إعلاميًا أكثر من اقتصادياً"، من خلال الترويج لخطاب رسمي يركز على "استقرار سعر الصرف" دون معالجة الأسباب الجوهرية للعجز النقدي.
وتشير تقارير اقتصادية إلى أن الحكومة تحاول عبر الإعلام الرسمي والمؤسسات المالية تقديم صورة من الثقة والهدوء، بينما يتم في الخلفية ترحيل الأزمات وتأجيل المواجهة مع الواقع المالي المتدهور.

كما يُلاحظ ارتفاع سعر الدولار الجمركي الذي تستخدمه الدولة لتسعير الواردات، وهو ما يرفع الأسعار المحلية ويعمّق التضخم، في وقت تلتزم فيه الحكومة بسياسة الصمت تجاه السوق الموازية وتداعياتها على المواطن.

ويرى بعض المحللين أن الهدف من هذا النهج هو تجنب التعويم الكامل قبل انتهاء التفاوض مع صندوق النقد الدولي على الشريحة الجديدة من التمويل، إذ يُخشى أن يؤدي التعويم إلى قفزة في الأسعار وانفلات التضخم بشكل يصعب السيطرة عليه.
 

الإعلام أداة في إدارة الأزمة
تتزايد المؤشرات على استخدام الإعلام الرسمي كأداة لتهدئة الرأي العام عبر بث رسائل مطمئنة عن استقرار سعر الصرف وتحسن موارد الدولة الدولارية، بينما تعاني الأسواق من انعدام الثقة وتذبذب في الأسعار.
وتُتهم بعض القنوات والصحف الحكومية بترويج أخبار عن "انخفاض متوقع للدولار" أو "تحسن في الصادرات والسياحة"، دون تقديم بيانات موثوقة تدعم هذه الادعاءات.

ويرى خبراء أن هذه الاستراتيجية تهدف إلى ضبط المزاج الشعبي وتأجيل ردود الفعل الغاضبة، لا سيما مع اقتراب الانتخابات البرلمانية والرئاسية، حيث تسعى الحكومة إلى تجنب أي هزة اقتصادية مفاجئة قد تؤثر على المشهد السياسي.
 

مستقبل غامض للجنيه المصري
مع استمرار النزيف التجاري والضغط على الاحتياطي النقدي، يبدو أن الاستقرار الظاهري للدولار لن يدوم طويلاً، خاصة في ظل توسّع الفجوة بين السعر الرسمي وسعر السوق الموازية.

ويرجّح خبراء أن تتجه الحكومة في نهاية المطاف إلى تعويم تدريجي جديد للجنيه، سواء بإيعاز من صندوق النقد الدولي أو استجابة لضغوط السوق، ما قد يؤدي إلى ارتفاع جديد في الأسعار وتراجع القوة الشرائية للمواطنين.

في المقابل، يدعو بعض الاقتصاديين إلى إصلاحات هيكلية عاجلة تشمل تشجيع الإنتاج المحلي، وتسهيل التصدير، وخفض الواردات الكمالية، كطريق وحيد للخروج من دوامة الدولار المتصاعدة.

وبين الأرقام الرسمية والحقائق الميدانية، تظل أزمة الدولار في مصر مرآةً لأزمة أعمق في بنية الاقتصاد ذاته.
فبينما تواصل الحكومة بث رسائل طمأنة عبر الإعلام الرسمي، يعيش الشارع واقعًا مختلفًا يكتوي بارتفاع الأسعار وانخفاض الدخل وتآكل الثقة في العملة المحلية.

وحتى إشعار آخر، سيظل الجنيه المصري رهين سياسات التثبيت المؤقت والتجميل الإعلامي، بانتظار لحظة المواجهة الحقيقية مع السوق والحقائق الاقتصادية التي لا يمكن إخفاؤها طويلًا.