أثار الكاتب الصحفي جمال سلطان جدلًا كبيرًا بتغريدة أطلق فيها انتقادًا لاذعًا لكل من الإعلامي إبراهيم عيسى ومقدم البرامج توفيق عكاشة، معتبرًا أن كليهما يسلك طريقًا واحدًا في مغازلة الإسرائيليين والأمريكان طمعًا في العودة إلى الشاشة عبر “هذه الفضائية أو تلك”. وأكد سلطان أن هذه الممارسات لم تعد مجرد خروج عن الثوابت، بل تحولت إلى تطبيع فكري وإعلامي فاضح، حتى قال ساخرًا: “ربما نصل إلى اليوم الذي نقيم فيه وسط القاهرة تمثالًا للجاسوسة هبة سليم ونعيد الاعتبار لتاريخها الوطني.”

تصريحات متجاوزة ومغالطات تاريخية
أثارت تصريحات إبراهيم عيسى الأخيرة في أحد برامجه التلفزيونية موجة من الغضب الشعبي، حين قال بشكل ساخر: “ما تقعدوش تقولوا مش هننسى اللي عملوه الإسرائيليين في بحر البقر، ليه مننساش بجد؟! ما إحنا نسينا للإنجليز مذبحة 25 يناير ومذبحة دنشواي.” هذه المقاربة التي حاول بها عيسى التهوين من الجرائم الإسرائيلية، جاءت مليئة بالمغالطات التاريخية، إذ تؤكد الوقائع أن حادثتي الإسماعيلية 1952 ودنشواي 1906 لا تزالان مخلّدتين في الذاكرة المصرية، ويتم إحياء ذكرهما رسميًا وشعبيًا كل عام.

ففي 25 يناير 1952، وقعت معركة الإسماعيلية بين قوات الشرطة المصرية والاحتلال البريطاني بعد رفض الضباط تسليم أسلحتهم، ما أسفر عن استشهاد 56 شرطيًا وإصابة العشرات، وسقوط قتلى من الجانب البريطاني أيضًا. ومنذ ذلك التاريخ تُخلّد الدولة المصرية هذا اليوم باعتباره عيد الشرطة. وقد أصدر الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك عام 2009 قرارًا باعتباره إجازة رسمية “تقديرًا لصمود رجال الشرطة في الإسماعيلية”. وبعد ثورة 25 يناير عام 2011، أصبح التاريخ ذاته يرمز إلى الثورة وعيد الشرطة معًا، إذ تؤكد كلمات الرئيس عبدالفتاح السيسي في احتفال عام 2021 أن "معركة الإسماعيلية المجيدة ستبقى شاهدًا على نبل البطولة وشرف الصمود."
 

دنشواي.. جرح وطني لا يُنسى
أما حادثة دنشواي التي جرت في 13 يونيو 1906 بمحافظة المنوفية، فما تزال من أبرز رموز مقاومة الاحتلال البريطاني، وتُعد ذكراها عيدًا قوميًّا للمحافظة. الحادثة بدأت حين حاول خمسة ضباط بريطانيين صيد الحمام قرب أجران القمح، ما تسبب في حريق وإصابة امرأة من القرية، فاشتعل الغضب الشعبي ودارت مواجهات أدت إلى مقتل أحد الضباط نتيجة ضربة شمس حسب روايات المؤرخين. رغم ذلك، أقيمت محاكمة صورية لـ 21 من أبناء دنشواي، أُعدم منهم أربعة، ونُفذت الأحكام في مشهد مهين بعد أقل من أسبوعين.

يصف المؤرخ عبدالرحمن الرافعي هذه الحادثة في كتابه “مصطفى كامل باعث الحركة الوطنية” بأنها أحد “المنعطفات الحاسمة في تاريخ النضال المصري، إذ ألهبت الوعي الوطني وأعلنت بداية مرحلة جديدة من المقاومة الشعبية.” إحياء ذكرى دنشواي لم يتوقف أبدًا، فقد أنشأت الدولة عام 1963 متحفًا خاصًا بالحادثة في القرية، وتم تجديده عام 1999، كما ألهمت الواقعة مئات الأدباء وصناع الدراما. ومؤخرًا، افتتح فيلم “كيرة والجن” (2022) مشهده الأول باستعراض درامي لحادثة دنشواي، تأكيدًا على استمرار حضورها القوي في الوجدان الجمعي.
 

جريمة بحر البقر.. دماء الأطفال التي لا تمحى
يبدو أن أكثر ما أثار الاستياء في خطاب إبراهيم عيسى هو دعوته إلى نسيان مذبحة بحر البقر، إحدى أبشع الجرائم التي ارتكبتها إسرائيل في حق المدنيين المصريين خلال حرب الاستنزاف. ففي 8 أبريل 1970، شنت الطائرات الإسرائيلية غارة على مدرسة بحر البقر الابتدائية بمحافظة الشرقية، ما أدى إلى استشهاد 30 طفلًا وإصابة آخرين بجروح مروعة. وقد ظلت صور المذبحة تُعرض في المدارس والمتاحف ووسائل الإعلام كرمز للوحشية الإسرائيلية ضد الأبرياء، وجزءًا لا يتجزأ من الذاكرة الوطنية المصرية.
 

بين استدعاء التاريخ وتبرير التطبيع
التصريحات التي أطلقها إبراهيم عيسى وما رافقها من تبريرات غير دقيقة، أثارت تساؤلات عديدة حول الدور الذي يلعبه بعض الإعلاميين في تمهيد الطريق للتطبيع الثقافي والإعلامي، عبر محاولة إضعاف الذاكرة التاريخية وتشويه رموز المقاومة الوطنية. فبينما يرى جمال سلطان أن هذه الموجة تشكل خطرًا على وعي المصريين، يرى آخرون أن مثل هذه الخطابات تعمد إلى "تلميع الاحتلال" سياسيًا وثقافيًا، لتتوافق مع التحولات الإقليمية الأخيرة في العلاقات المصرية الإسرائيلية.

وختاما، يبقى من المؤكد أن ذاكرة الشعوب لا تُمحى بخطاب تلفزيوني أو تعليق عابر، فملامح البطولات والمعارك التي خاضها المصريون ضد الاحتلال — من دنشواي إلى الإسماعيلية إلى بحر البقر — لا تزال محفورة في ضمير الأمة كدليل على شجاعة أجيال قاومت الذل، وحملت مشعل الحرية جيلاً بعد جيل.