في بيان أثار كثيرًا من علامات الاستفهام، أعلنت الهيئة العامة للاستعلامات في مصر أنّ تواجد القوات المسلحة المصرية في سيناء يتم بالتنسيق المسبق مع أطراف معاهدة السلام مع إسرائيل، مؤكدة أن الهدف من ذلك هو "تأمين الحدود".
ورغم أنّ البيان شدّد على رفض مصر لتوسيع العمليات العسكرية الإسرائيلية في قطاع غزة أو تهجير الفلسطينيين، إلا أن توقيته ومضمونه جاءا ليكرّسا صورة العجز المصري أمام الرأي العام.
فبدلًا من التأكيد على سيادة كاملة على أراضي سيناء، أعادت القاهرة نفس الخطاب الذي سبق أن كررته الحكومات الإسرائيلية في أكثر من مناسبة، بما يعكس التزامًا عمليًا بقيود معاهدة كامب ديفيد، حتى وسط أبشع حرب إبادة تشهدها غزة منذ عقود.
تكرار المبررات الإسرائيلية
المفارقة أن البيان المصري يكاد يطابق ما كانت تردده الحكومات الإسرائيلية سابقًا حينما جرى الحديث عن زيادة أعداد القوات المصرية في سيناء.
فقد كان الجانب الإسرائيلي يفاخر دومًا بأن أي انتشار عسكري مصري يجري بموافقته المباشرة وبموجب التنسيق الأمني الوارد في معاهدة السلام.
واليوم، لم تُخفِ الهيئة المصرية الاستعلامية هذا الأمر، بل أكّدته كمسلمة، في خطوة فسّرها مراقبون بأنها محاولة لطمأنة واشنطن وتل أبيب، أكثر مما هي رسالة موجهة للرأي العام المصري أو العربي.
حدود السيادة المنقوصة
تاريخيًا، ظلت سيناء تعاني من سيادة منقوصة منذ توقيع اتفاقية كامب ديفيد عام 1979، حيث جرى تقسيمها إلى مناطق تحدد بدقة حجم ونوعية القوات المصرية المسموح بوجودها.
صحيح أن التطورات الأمنية بعد عام 2011 دفعت إلى تعديلات سمحت بتواجد قوات إضافية تحت مسمى مكافحة الإرهاب، لكن ظل ذلك مشروطًا بالموافقة الإسرائيلية.
واليوم، ومع تفاقم العدوان على غزة وخطر التهجير القسري للفلسطينيين، كان المتوقع أن تعلن مصر موقفًا أكثر استقلالية في إدارة أراضيها، غير أن البيان الأخير جسّد استمرار الارتهان للقيود المفروضة منذ أربعة عقود.
رفض لفظي دون أفعال
البيان شدّد على رفض مصر توسيع العمليات الإسرائيلية في غزة أو تهجير الفلسطينيين نحو سيناء، لكن هذا الرفض لم يتجاوز حدود التصريحات الإعلامية.
فعمليًا، تستمر إسرائيل في قصف القطاع بلا توقف، وتلوّح بدفع الفلسطينيين نحو الحدود المصرية، فيما تكتفي القاهرة ببيانات سياسية وديبلوماسية لا تترجم إلى خطوات ردعية.
ويخشى كثيرون أن يتحول الرفض اللفظي إلى مجرد ورقة للتخفيف من الغضب الشعبي، بينما تظل الدولة عاجزة عن فرض أي معادلة ردع حقيقية أمام التهديدات الإسرائيلية المتكررة.
الرأي العام بين الغضب والإحباط
داخل مصر، أثار البيان انتقادات واسعة في الأوساط الشعبية وعلى منصات التواصل الاجتماعي، حيث اعتبره كثيرون تأكيدًا رسميًا على غياب الإرادة السياسية في الدفاع عن السيادة الوطنية الكاملة.
فالمصريون الذين يرون أشقاءهم في غزة يذبحون يوميًا تحت القصف الإسرائيلي، يتطلعون إلى مواقف أكثر قوة وحزمًا، بينما جاءت تصريحات هيئة الاستعلامات لتعيد إنتاج خطاب رسمي هشّ يعترف ضمنيًا بأن القرار في سيناء ليس مصريًا خالصًا.
هذا الشعور بالخذلان ترافق مع مقارنات ساخرة بين وعود النظام الحاكم بالسيادة الكاملة وبين الواقع الموثّق بالتصريحات الرسمية.
الكاتب الصحفي جمال سلطان " الهيئة العامة للاستعلامات جهاز تابع مباشرة لرئاسة الجمهورية، فعندما يصدر بيانا في شأن دولي حساس مثل ما يجري في سيناء يفترض أنه يراجع على أعلى المستويات، فلماذا قامت الهيئة بسحب بيانها الأول القوي و"شديد اللهجة"، وأنزلت بدلا منه بيانا وديعا مهذبا يؤكد التزام مصر بمعاهدتها مع إسرائيل؟ ما دلالة هذا الذي حدث؟!".
الهيئة العامة للاستعلامات جهاز تابع مباشرة لرئاسة الجمهورية، فعندما يصدر بيانا في شأن دولي حساس مثل ما يجري في سيناء يفترض أنه يراجع على أعلى المستويات، فلماذا قامت الهيئة بسحب بيانها الأول القوي و"شديد اللهجة"، وأنزلت بدلا منه بيانا وديعا مهذبا يؤكد التزام مصر بمعاهدتها مع… pic.twitter.com/Actb1U9vin
— جمال سلطان (@GamalSultan1) September 21, 2025
الإعلامي هيثم أبوخليل " بيان الهيئة العامة للإستعلامات التابعة لرئاسة الجمهورية والذي تم حذفه بعد نشره واستبداله بآخر أقرأ حضرتك قراءة متأنية لتعرف لماذا حُذف وأين تقف مصر حاليا ولا تسمح لـ(...)يضحك عليك ويقولك العلاقات متوترة مع العدو المحتل وكده مرفق صورة البيان الأول من الأهرام والثاني من الهيئة".
🔵 بيان الهيئة العامة للإستعلامات التابعة لرئاسة الجمهورية والذي تم حذفه بعد نشره واستبداله بآخر❗️
— Haytham Abokhalil هيثم أبوخليل (@haythamabokhal1) September 21, 2025
أقرأ حضرتك قراءة متأنية لتعرف لماذا حُذف وأين تقف مصر حاليا ولا تسمح لـ(...)يضحك عليك ويقولك العلاقات متوترة مع العدو المحتل وكده
مرفق صورة البيان الأول من الأهرام
والثاني من الهيئة pic.twitter.com/5ErpVEQrZI
ونشر الصحفي عمار الفطايري " بيان ماقبل التعديل نص الهيئة العامة للاستعلامات بشأن القوات المصرية في سيناء".
🛑 بيان ماقبل التعديل نص الهيئة العامة للاستعلامات بشأن القوات المصرية في سيناء https://t.co/OeMXdbcVjM pic.twitter.com/SRdCPoIkOa
— omar elfatairy (@OElfatairy) September 21, 2025
د.سام يوسف " الهيئة العامة للاستعلامات المصرية تصدر بيانا رسميا تبرر فيه وجود قوات الجيش في سيناء، وتؤكد أن الهدف هو مكافحة التهريب والإرهاب بالتنسيق مع أطراف معاهدة السلام".
الهيئة العامة للاستعلامات المصرية تصدر بيانا رسميا تبرر فيه وجود قوات الجيش في سيناء، وتؤكد أن الهدف هو مكافحة التهريب والإرهاب بالتنسيق مع أطراف معاهدة السلام‼️ pic.twitter.com/9txxbp3P5L
— Dr.Sam Youssef Ph.D.,M.Sc.,DPT. (@drhossamsamy65) September 20, 2025
الإعلامية نادية الماجد بيانان بينهما دقائق من الهيئة العامة للاستعلامات المصرية حول تواجد القوات المسلحة المصرية في شبه جزيرة سيناء. تم حذف البيان اللي على الشمال #مصر".
بيانان بينهما دقائق من الهيئة العامة للاستعلامات المصرية حول تواجد القوات المسلحة المصرية في شبه جزيرة سيناء.
— Nadia El-Magd ناديا (@Nadiaglory) September 20, 2025
تم حذف البيان اللي على الشمال #مصر pic.twitter.com/Sul1KiXdY2
سيناء في قلب الصراع
الأهمية الاستراتيجية لسيناء لا تقتصر على كونها منطقة حدودية مع إسرائيل وغزة، بل هي عمق جغرافي لمصر ومفتاح أساسي لأي مشروع استراتيجي في المنطقة.
ولذلك فإن تكرار الخطاب الرسمي القائم على التنسيق مع إسرائيل يفتح الباب أمام تساؤلات خطيرة حول مستقبل سيناء نفسها، وهل يمكن أن تتحول إلى منطقة عازلة أو بديل مطروح لتهجير الفلسطينيين.
ورغم النفي الرسمي، إلا أن تراجع الموقف المصري وتردده يغذّي هذه الشكوك بدلًا من أن يبددها.
الخلاصة أن بيان هيئة الاستعلامات الأخير لم ينجح في طمأنة الداخل المصري ولا الشارع العربي، بل زاد من الإحساس بالعجز والتبعية. ففي لحظة مفصلية تعيشها غزة، كان يمكن لمصر أن ترسل رسالة قوة وسيادة كاملة على أراضيها، لكنها اختارت أن تكرّر ما قاله الاحتلال مرارًا: كل انتشار عسكري مصري في سيناء مرهون بتنسيق مسبق.
وبينما تواصل إسرائيل حربها الإجرامية على غزة، يبقى السؤال مفتوحًا: متى تستعيد مصر قرارها الحر وتتعامل مع سيناء باعتبارها أرضًا خالصة لا يحق لأحد التدخل في شؤونها؟