من يزور القاهرة التاريخية هذه الأيام سيُفاجأ أن مقبرة الإمام الشافعي، التي صمدت أكثر من ألف عام، لم تصمد أمام بلدوزر السلطة ولا أمام شهوة المال الخليجي.
السعودية والإمارات جاءتا تحت لافتة "الاستثمار والتطوير"، لكن الحقيقة أن التطوير عندهم معناه: "نهدم التراث ونبني مول تجاري أو أبراج زجاجية".
باختصار، مقبرة الإمام الشافعي لم تعد مكانًا مقدسًا ولا معلمًا أثريًا، بل تحولت إلى قطعة أرض مطروحة للمزاد، والسؤال: مين يزايد أكتر، أبوظبي ولا الرياض؟.
ففي الوقت فالذي تقف مقبرة الإمام الشافعي شاهدًا على عراقة الإسلام وذاكرة الأمة، باعتبارها واحدة من أهم مقابر علماء المسلمين وأحد أركان التراث الإنساني الذي لا يُقدر بثمن.
لكن هذه القيمة الروحية والتاريخية لم تشفع للمكان، إذ يتعرض منذ سنوات إلى مخطط وصفه خبراء التراث بـ"النهب الممنهج"، يتم عبر ما يُسمى "التطوير العمراني"، بينما الحقيقة أنه تفريغ لروح القاهرة القديمة وتحويلها إلى مجرد أرض استثمارية مطروحة للبيع.
الجديد في الملف أن أصابع الاتهام تتجه نحو أموال واستثمارات سعودية وإماراتية، تسعى إلى فرض نفوذها عبر مشاريع ظاهرها التنمية وباطنها محو الهوية.
https://x.com/i/status/1958560996278063411
ذاكرة الأمة في مهب الريح
مقبرة الإمام الشافعي ليست مجرد مكان للدفن، بل هي معلم ديني وتاريخي تأسس منذ أكثر من ألف عام، وارتبط بمدرسة فقهية كاملة شكّلت وجدان المسلمين لقرون.
ضريح الإمام الشافعي، والمساجد المحيطة، والقباب التاريخية التي تضم رفات عائلات علمية وفقهية، كلها بمثابة متحف مفتوح للعمارة الإسلامية.
الدكتور جمال الغيطاني – أحد أبرز مؤرخي العمارة الإسلامية – وصف من قبل مقبرة الإمام الشافعي بأنها "وثيقة حية لتاريخ المسلمين في مصر"، محذرًا من أن أي عبث بها هو "محو متعمد للهوية".
ويرى خبراء التراث أن "الذاكرة الجمعية للأمة تُقتلع تحت لافتة إعادة التخطيط"، وهو ما يعني أن مصر تخسر جزءًا من تاريخها لا يمكن تعويضه.
التطوير أم التدمير؟
الحكومة المصرية تروج لمشروع "تطوير القاهرة" باعتباره ضرورة لتخفيف الزحام. لكن ما يحدث فعليًا هو اقتلاع أحياء كاملة، وإزالة مقابر تاريخية لا تعوض.
المهندس ممدوح حمزة – الخبير الاستشاري – وصف هذه العمليات بأنها "جريمة تخطيطية"، مؤكدًا أن أي دولة تحترم تاريخها كانت ستجد بدائل حضارية مثل تطوير النقل العام بدل هدم التراث. أما الدكتور سيد كريم، المتخصص في العمران، فأشار إلى أن اختيار هذه المنطقة تحديدًا ليس عشوائيًا، وإنما بسبب موقعها الاستراتيجي في قلب القاهرة، حيث تُعتبر "فرصة استثمارية ذهبية" للمستثمرين الخليجيين.
أموال خليجية.. وطمس الهوية
تقارير صحفية عدة تحدثت عن دور سعودي وإماراتي في تمويل مشاريع "إعادة تخطيط القاهرة التاريخية".
الإمارات، التي أثارت الجدل بمشاريعها في منطقة الفهيدي بدبي، تحاول تكرار التجربة في القاهرة، لكن على حساب تاريخ حيّ وموثق هذه المرة.
والسعودية، التي تضخ المليارات في مشروع "الدرعية الجديدة"، تتوسع عبر الاستثمار العقاري في مصر لتصبح لاعبًا رئيسيًا في "إعادة رسم هوية القاهرة".
المحلل السياسي حسن نافعة أكد أن "رأس المال الخليجي لا يدخل مصر فقط كاستثمار، بل كأداة نفوذ سياسي"، محذرًا من أن "تحويل المقابر إلى عقارات فاخرة هو شكل جديد من أشكال السيطرة على الهوية".
النهب الممنهج.. من التاريخ إلى العقار
ما يحدث في مقبرة الإمام الشافعي ليس استثناءً، بل جزء من مشهد أوسع يتكرر في القاهرة: بيع أراضي الدولة، خصخصة الأصول العامة، واستحواذ رأس المال الخليجي على مناطق حساسة.
المنطقة المحيطة بالمقبرة لم تُعامل كتراث، بل كـ"متر أرض بالدولار".
الخبير الاقتصادي عبد الخالق فاروق كان قد علّق قائلاً: "التطوير في مصر صار كلمة مرادفة للبيع، والتراث صار مجرد فرصة استثمارية".
ويشير إلى أن هذه السياسة تؤدي إلى "تشريد عائلات، هدم مقابر، وتسوية الأرض، ثم طرحها في مزادات"، وهو ما يُعد نموذجًا كلاسيكيًا للنهب الممنهج.
المقاومة الشعبية وصوت الخبراء
رغم القمع، لم يلتزم الجميع الصمت. خبراء آثار ومؤرخون وصفوا ما يحدث بأنه "جريمة ضد الإنسانية".
الدكتور طارق الحسن، أستاذ الآثار الإسلامية، قال: "هدم مقبرة الإمام الشافعي لا يقل خطورة عن تدمير طالبان لتماثيل بوذا أو جرائم داعش ضد التراث"، مشددًا على أن "القاهرة تفقد جزءًا من روحها".
على الجانب الشعبي، نشطاء على مواقع التواصل الاجتماعي أطلقوا حملات ووسوم مثل "أنقذوا مقابرنا"، معتبرين أن ما يجري هو "تهجير ثقافي" يهدف إلى فصل المصريين عن جذورهم.
جريمة في وضح النهار
اليوم، لم تعد مقبرة الإمام الشافعي مجرد ضريح، بل صارت رمزًا لمعركة الهوية.
ما يُسمى بالتطوير، وفق محللين، ليس إلا "تدميرًا ممنهجًا بدعم خليجي"، يفرغ القاهرة من روحها لصالح صفقات عقارية.
السعودية والإمارات، اللتان تبنيان مدنًا عملاقة في بلادهما، تمدان أيديهما لتراث مصر الإسلامي، لتحوّل ذاكرة الأمة إلى سلعة في بورصة العقارات.
المؤرخ محمد عبد اللطيف يلخص المأساة بقوله: "إذا استمر هذا النهج، فلن يبقى من القاهرة سوى أسماء الشوارع، بينما تاريخها سيُدفن تحت الإسفلت والزجاج".