لم يكن إعلان وزارة الصحة عن مبادرة جديدة لاستعادة الأطباء المصريين المهاجرين من الخارج سوى حلقة جديدة من مسلسل "التجميل الإعلامي" الذي تمارسه الحكومة. فالنظام نفسه الذي أهمل الأطباء لعقود طويلة، وتركهم فريسة لرواتب هزيلة، وبيئة عمل متردية، وغياب أبسط أشكال الحماية القانونية والأمنية، هو من يتحدث اليوم عن خطة لإعادتهم إلى الوطن.
هذا التناقض الصارخ يفضح هشاشة الرؤية الرسمية ويؤكد أن المشكلة لم تكن يومًا في "سفر الأطباء"، بل في السياسات الحكومية الفاشلة التي دفعتهم دفعًا إلى الهجرة، بحثًا عن الكرامة والعدالة قبل البحث عن المال.
 

رواتب هزيلة وهجرة لا تتوقف
يرى الدكتور خالد سمير، عضو مجلس نقابة الأطباء السابق، أن هجرة الأطباء ليست سرًا، فمصر تخسر سنويًا آلاف الكوادر الطبية بسبب تدني الأجور، حيث لا يتجاوز راتب الطبيب الشاب في المستشفيات الحكومية 3 آلاف جنيه شهريًا، في حين يتقاضى أضعاف هذا الرقم في أي دولة عربية مجاورة.
ويضيف سمير أن "الحكومة تعلم تمامًا أن تحسين الرواتب هو الخطوة الأولى لإيقاف نزيف الهجرة، لكن بدلاً من ذلك تلجأ لحملات إعلامية براقة لإيهام الناس بأن الحل قريب، بينما الحقيقة أن الأزمة أعمق وأخطر".
 

بيئة عمل طاردة وخالية من الأمان
تشير الدكتورة منى مينا، وكيلة نقابة الأطباء السابقة، إلى أن البيئة الطبية في مصر تحولت إلى "مصيدة للأطباء" لا إلى مكان للعمل المهني المحترم. فالمستشفيات تعاني نقصًا حادًا في الأجهزة والأدوية، والطبيب يُجبر على مواجهة غضب الأهالي دون أدوات علاجية كافية.
وتضيف مينا: "لا يوجد تأمين حقيقي يحمي الأطباء من الاعتداءات المتكررة داخل المستشفيات، ولا نظام يضمن سلامتهم الجسدية أو النفسية. كيف تطلب الحكومة من طبيب يعمل تحت هذه الظروف أن يعود من ألمانيا أو الخليج ليواجه الإهانات والعنف في طوارئ المستشفيات؟".
 

بيروقراطية خانقة وتهميش للتدريب
أما الدكتور محمد نصر، أستاذ جراحة القلب وعضو مجلس الشيوخ السابق، فيرى أن البيروقراطية هي العدو الأول للتعليم الطبي المستمر في مصر.
فالحصول على زمالة أو فرصة تدريبية يحتاج سنوات من الإجراءات المعقدة، بينما لا تقدم الدولة أي دعم حقيقي للأطباء الشباب الراغبين في التطوير.
ويقول نصر: "الدول التي استقبلت أطباءنا لم تكتف بتقديم رواتب عادلة، بل وفرت لهم فرصًا حقيقية للتعليم والتخصص والبحث العلمي. الحكومة المصرية تتحدث اليوم عن إعادة الأطباء، لكنها لم تطرح أي خطة جادة لإصلاح منظومة التعليم الطبي أو لتمويل برامج تدريب متقدمة".
 

تصريحات للشو وتجاهل للواقع
من جانبه، وصف الدكتور حسين خيري، نقيب الأطباء السابق، تصريحات وزارة الصحة عن مبادرة إعادة الأطباء بأنها "إعلانات للاستهلاك الإعلامي".
وأكد أن الحل لن يكون في استدعاء الأطباء من الخارج وإنما في إنقاذ من تبقى داخل مصر من الاستسلام للهجرة.
وأضاف: "الحكومة لم تقدم حتى الآن أي تصور لمعالجة الأسباب الحقيقية لهجرة الأطباء: الأجور، بيئة العمل، الحماية القانونية، التدريب، والتقدير المجتمعي. الحديث عن مبادرات هو مجرد محاولة لامتصاص غضب الشارع وإلهاء الناس عن فشل المنظومة الصحية".

إن الحقيقة التي تحاول الحكومة التغطية عليها أن من تسبب في طرد الأطباء لا يمكن أن يكون هو نفسه من يعيدهم.
من أهانهم برواتب متدنية، وتركهم بلا حماية في المستشفيات، وأغرقهم في بيروقراطية مميتة، لا يسعى اليوم إلى "استعادتهم" بقدر ما يسعى إلى صناعة مشهد إعلامي مضلل.

الأطباء المهاجرون لم يغادروا وطنهم حبًا في الغربة، بل هربًا من واقع حكومي طارد.
وما لم تبدأ الدولة في معالجة جذور الأزمة بإصلاحات جادة وحقيقية، فإن أي تصريحات عن مبادرات جديدة ستظل مجرد شو سياسي وإعلامي لا قيمة له، ولن يوقف نزيف العقول ولا انهيار المنظومة الصحية.