ممدوح الولي

خبير اقتصادي ونقيب الصحفيين سابقًا

 

لخص أحد المواطنين الغزيين الموقف حين قال: «أين كنتم طوال خمسة أشهر؟» تعقيبًا على ما يسمعه من إلقاء بعض الدول مساعدات غذائية جوًّا، ومطالبة دول أخرى إسرائيل بالسماح بإدخال المزيد من المساعدات، وتصريحات ترامب بأن الكثيرين في غزة يتضورون جوعًا.

وهو الرأي الذي نشاركه بالسؤال المؤلم: أين كانت الدول العربية والإسلامية من حرب تجويع سكان غزة التي أعلنتها حكومة الاحتلال بدايات شهر مارس الماضي، وشددتها خلال الأشهر التالية؟ حيث وقف الجميع يتفرجون مع إصدار بعض بيانات الإدانة المعتادة بين الحين والآخر، دون اتخاذ أي موقف عملي، ولو بتحقيق مقررات القمة العربية الإسلامية الأولى في نوفمبر 2023. بل إن بعض الأنظمة العربية لاحقت متطوعين ساهموا في دعم بعض تكايا توزيع الطعام الجماعي داخل غزة.

ومن هنا فقد ظلت شكوكهم موجودة وهم يسمعون أن نفس الدول التي لاحقت المتطوعين تسقط معونات عن طريق الجو، سقط بعضها في مناطق وجود قوات الاحتلال مما يجعل وصول المدنيين إليها مستحيلًا. كما أن الإسقاط الجوي، على قلة كميته مقارنة بما تحمله الشاحنات، يتسبب في إصابة من تسقط المعونات عليهم، وقد تسبب من قبلُ في قتل عدد من الغزيين. كما صرحت عدة منظمات دولية إغاثية بأنه لا يكفي لحل مشكلة الجوع، وأن الحل في فتح المعابر وإدخال المعونات المنتظرة منذ شهور، التي لم تحصل بعد على التصريح بالدخول.

ليظل السؤال: هل من لم تتحرك مشاعرهم من قادة العرب والغرب عند وصول عدد الضحايا في غزة إلى خمسين ألف شخص قبل عدة أشهر -فضلا عن آلاف ما زالوا تحت الأنقاض ولا توجد وسائل لاستخراج رفاتهم- يمكن أن يحركهم تخطي عدد الضحايا ستين ألفًا والمصابين 146 ألفًا مؤخرًا؟ وهي المجتمعات التي تتفاخر بالعديد من القصص الإنسانية، مثل إنقاذ قوات الأمن لقطة سقطت في قاع حفرة، أو نحو ذلك مما يزخر به المجتمع الغربي من قصص، وهو مجتمع تتحدد مواقفه انطلاقًا من توجهات عرقية وعنصرية. ولعل تباين موقفَيه من الحرب على أوكرانيا والحرب على غزة خير دليل.

 

زيادة تجارة إسرائيل والاتحاد الأوروبي

وعندما تدخلت بعض الدول الأوروبية على الخط، سواء بدعوة إسرائيل إلى إدخال المزيد من المعونات أو بإسقاط معونات رمزية عن طريق الجو، فقد استمرت الشكوك أيضًا لأن نفس الدول مستمرة في إمداد دولة الاحتلال بالسلاح الذي يفتك بالمدنيين يوميًّا في غزة، حتى إن الكثيرين شبَّهوا موقف الدول الأوروبية من حرب التجويع بما قامت به في حرب البوسنة، حين تلكأت في التدخل حتى يتم قتل أكبر عدد من المسلمين هناك.

وها هم يكررون نفس المشهد في غزة، حين يهددون منذ شهور باتخاذ إجراءات تجارية ضد إسرائيل دون أن يتحقق شيء من ذلك. بل لقد زادت قيمة التجارة الإسرائيلية مع الاتحاد الأوروبي في النصف الأول من العام الحالي، عمّا كانت عليه في نفس الفترة من العام الماضي.

وها هي الدول الأوروبية التي تدعي رفضها لحرب التجويع الإسرائيلية إرسال مساعدات جوًّا، إذ يتحدث رئيس وزراء إسبانيا عن إسقاط 12 طنًّا من المساعدات جوًّا لغزة عبر الأردن، وهو ما يقل عن نصف حمولة شاحنة واحدة متوسطة الحجم. أما المستشار الألماني فيتحدث عن طائرتين ستسقطان مساعدات عبر الأردن أيضًا، رغم أن الأردن من أقرب الدول جغرافيًّا لإسرائيل، ويمكن من خلاله تسيير شاحنات المساعدات برًّا عبر المنافذ بين البلدين، وهو ما كان يمكن أن يفعله رئيس الوزراء البريطاني أيضًا، الذي تحدث عن إسقاط بلاده لمساعدات جوًّا.

أما حديث الرئيس الأمريكي حول إقراره بتضور سكان غزة من الجوع، فهو يعلم كم من الضحايا فقدوا حياتهم خلال محاولتهم الحصول على المعونات التي بشرت بها الإدارة الأمريكية بالتعاون مع دولة الاحتلال. وهكذا تعرض الغزيون للقتل والتدمير بواسطة الأسلحة الأمريكية التي تمد بها دولة الاحتلال، كما تعرضوا للقتل والإصابة عند محاولتهم الحصول على المعونات الإنسانية الأمريكية.

 

العبرة بوصول الشاحنات إلى الجوعى

ومن هنا فلا ثقة لديهم في تصريحات الرئيس الأمريكي، الذي تكررت وعوده سابقًا بقرب إيقاف الحرب في غزة، ليتبين أنه يقصد من تلك الوعود إتاحة فرص زمنية متتالية لدولة الاحتلال للمزيد من القتل والتدمير في غزة، ولتحقيق أهدافها التي فشلت في تحقيقها حتى الآن.

والأمر هنا لا يتعلق فقط بشكوك حول فاعلية المعونات لعلاج مشكلة التجويع، بسبب تأخر التدخل أو قلة كمياتها مقارنة بفداحة المشكلة وامتدادها وعمقها، وإنما بالجدوى العملية لما يتم إدخاله من معونات وأرقام لعدد الشاحنات، تبيّض بها أنظمة عربية وإسرائيلية صورتها أمام العالم. فالعبرة بوصول تلك الشاحنات إلى المستحقين من الجوعى في أنحاء غزة المنكوبة.

لكنه عندما يتم تصوير دخول الشاحنات عبر المنافذ إعلاميًّا، ثم يُقتل المتطوعون لحراستها من أبناء العشائر، وتُسلب من قبل العصابات الإجرامية التي ترعاها دولة الاحتلال، فنحن أمام مشهد عبثي وجريمة يصمت عنها الجميع. كما صمتوا من قبل، حين كان يتم إدخال شاحنات المساعدات، ثم تعترضها مجموعات من الشبان الإسرائيليين، يقومون بإلقاء حمولتها أرضًا بحيث لا يصل منها شيء لسكان غزة، أو يتم تفريغها على الأرض في معبر كرم أبو سالم وغيره من المعابر.

لنكن صرحاء للقول إن الكميات التي يتم إدخالها حاليًّا لغزة لا تكفي أصلًا لعلاج مشكلة التجويع، الممتدة ليس فقط خلال الأشهر الخمسة الأخيرة، وإنما لفترات أطول من ذلك. ولقد قال لي أحد الأطباء إن هناك من الحالات المرضية التي يسببها الجوع، ما لا يصلح معه علاج عندما يصل إليها الغذاء في مرحلة متأخرة. ولذلك فإن العبرة بوصول الكميات التي تعبر المنافذ إلى أنحاء غزة، وهو أمر كانت الأونروا تقوم به خير قيام، قبل تعنت دولة الاحتلال معها، وتمكينها للعصابات التابعة لها من نهب المعونات خلال رحلتها داخل القطاع، بسماح أمريكي وصمت أوروبي وعربي.

يا سادة، ما زال الهدف الذي يجتمعون عليه، سواء دولة الاحتلال أو بعض الأنظمة العربية والأوروبية والولايات المتحدة، هو التجويع الممنهج لمعاقبة الشعب الغزي على صموده، والضغط عليه للاستسلام بعد أن فشلوا في تحقيق هدفهم في القضاء على المقاومة، التي ما زالت تكبّد العدو بعض الخسائر حسب قدراتها المتبقية. ولذلك نتصور أن التدخل الأخير لتخفيف التجويع هو من باب ذر الرماد في العيون وتهدئة الرأي العام، الذي تألم لصور ضحايا التجويع في غزة. ولهذا، فهم بحاجة إلى تحسين صورتهم بعد مشاركتهم في التجويع، مع استمرارهم في السعي لتحقيق هدفهم المشترك الذي أعلنوا عنه منذ بداية حرب الطوفان، وتحركوا معًا لتحقيقه: القضاء على المقاومة وحاضنتها الشعبية وتنفيذ مخطط التهجير.