بقلم: وائل قنديل

من الواجب، أو من الجائز بالحد الأدنى، اعتبار دونالد ترامب وإدارته الأميركية معياراً قيمياً أو وحدة قياس أخلاقية، عند تقييم موقف أو إجراء أو خطاب، بحيث يكون التناقض مع ما يأتي به ترامب وصهاينته بمثابة اتّساق وتناغم مع الحقّ والخير والجمال، إذ باتت المقاربات الترامبية من كلّ قضايا العالم تثير غضباً وسخرية من منطقٍ يعلن صاحبه أنه الاستجابة الغريزية للشعور بتضخّم القوة المادية.

هنا بالتحديد تكمن القيمة الروحية للسيدة العظيمة فرانشيسكا ألبانيز، المقرّرة الأممية الخاصة المعنية بحقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية، وبسالتها في الدفاع عن الحقّ في مقابل القوة، والعدالة ضدّ الغطرسة، والقيم الإنسانية ضدّ قوانين الغابة، وسيدها الذي يباهي كلّ يوم بترسانته من البلطجة والابتزاز وأسطوله المدمّر لكلّ ما يقف في طريقه، إذ تأتيها الشهادة على استقامتها الأخلاقية من الشخص الذي يمثل معكوس ذلك كله، وإدارته الأميركية التي فرضت عليها عقوباتٍ مشدّدة لأنها تجرّأت وانتقدت الممارسات الإسرائيلية الإجرامية ضدّ الشعب الفلسطيني، ونشرت تقريراً موثّقاً بالأدلة عن أعمال الإبادة الجماعية والتطهير العرقي التي تنفذّها تل أبيب وتدعمها واشنطن، إذ اتهم التقرير أكثر من 60 شركة، منها شركات أميركية، بدعم المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية والعمليات العسكرية في غزّة.

أثار هذا التقرير جنون إدارة ترامب، فأعلن وزير خارجيته، ماركو روبيو، إدارج ألبانيز في قائمة العقوبات الأميركية، لأن عملها أدّى إلى ما وصفها ملاحقات قضائية غير شرعية للإسرائيليين في محكمة الجنايات الدولية، ويكشف هذا القرار الأميركي عن أن رجل الاحتلال الصهيوني الساكن في البيت الأبيض لم يعد يعترف بأشياء وكيانات مستقرّة في ضمير العالم، مثل الشرعية الدولية، وحقوق الإنسان،  والأمم المتحدة، لتضاف إلى قائمة المنظمات والهيئات الدولية التي يحاربها ترامب ويعتبرها كياناتٍ معادية، مثل محكمتي العدل والجنائية الدوليتَين، على قاعدة أن كلّ ما هو ضدّ جرائم الاحتلال عدو للإدارة الأميركية.

وفي ذلك سبق أن فرضت واشنطن عقوباتٍ على مسؤولين في المحكمة الجنائية الدولية، لأنها انحازت إلى كلّ ما هو إنساني وقانوني وأصدرت مذكّرات اعتقال بحقّ رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع السابق يوآف غالانت، للاشتباه في ارتكابهما جرائم حرب في غزّة، كما باتت دول محترمة (مثل جنوب أفريقيا وكولومبيا) تحتل مكاناً بارزاً في لائحة أعداء الإدارة الأميركية، لأن هذه الدول قرّرت التضامن مع حقوق الشعب الفلسطيني وملاحقة إسرائيل أمام المحاكم الدولية بتهمة ارتكاب جرائم إبادة جماعية.

في مقابل محور النبل الإنساني والتمسّك بالعدالة وحقوق الإنسان ضدّ الإرهاب الذي يمارسه ترامب وإسرائيل على العالم، تصدمك هذه الدونية والانبطاحية التي تكتسي مواقف حكومات عربية وإسلامية من العربدة الأميركية الإسرائيلية بالقانونين الدولي والإنساني، التي بلغت ذروتها بتوهم الرئيس الأميركي أنه رجل سلام ورسول محبّة إلى حدّ يرى نفسه معه الأجدر بجائزة نوبل للسلام، علي الرغم من أنه الشخص نفسه، الذي يتفاخر بقدرته على تدمير كلّ من يرفض الانصياع لمنطقه الغارق في قيم تنتمي بالكلية إلى عصور ما قبل اختراع القوانين والقيم الإنسانية المشتركة، على أن ما يثير الأسى  أكثر أن تجد حكومات دول، عانت الويلات مع الاستعمار القديم، تنادي بترامب داعية سلام، فيقرّر رؤساء دول أفريقية مثل موريتانيا والسنغال والغابون أنه يستحقّ جائزة نوبل للسلام.

هذا عن الأسى، أما عن شعور الاشمئزاز فهو ما لا تملك دفعاً له وأنت تتابع ممارسةً شديدةَ الانحطاط لنوع من العبودية للقوة الإجرامية الباطشة، مصدرها وفد من يسمّون أنفسهم مشايخ وأئمة المسلمين في أوروبا، لدي زيارتهم الكيان الصهيوني، والدعاء لحكّامه المجرمين بالتوفيق والسداد في عدوانهم على الشعب الفلسطيني، ويحاولون ترديد النشيد الوطني الصهيوني الذي تقطٌر من كلماته الكراهية، والدماء.

أحد هؤلاء المتصهينين باسم الإسلام يقال إنه إمام مسجد في فرنسا، اسمُه حسن شلغومي، وقف بين يدي الرئيس الصهيوني أو تحت قدميه، ليلقي خطبة فاسدةً  في روعة الاحتلال وإنسانيّته وتحضّره، ثم يصطحب الوفد لإحياء ذكرى المحرقة النازية، بينما أصوات المحرقة الصهيونية في عصر غزّة لم تنقطع عامين كاملين، حاصدةً أكثر من ستّين ألف شهيد فلسطيني، لا بدّ أنها وصلت إلى مسامع شيوخ العمالة، وهم يتسكّعون في الأراضي الفلسطينية المحتلة.

هؤلاء الشيوخ من عبيد القوة المتغرطسة هم النقيض الكامل لكلّ ما تمثّله السيدة فرانشيسكا ألبانيز، وعشرات الملايين من النبلاء المنتمين لكلّ الديانات، ممّن يحبّهم الله ورسوله، لأنهم يناصرون الحقّ والعدل والخير في مواجهة عالم شرّير يديره ترامب بمعاونة كثيرين من العبيد والخدم من بني جلدتنا.