في قلب الأزقّة الضيقة وأسفل العقارات القديمة، وبين ضجيج المطارق ورائحة الخشب والزيوت، يحفر آلاف الحرفيين قصص كفاح يومي لا يعلم عنها كثيرون. هم عماد الاقتصاد غير الرسمي، وصنّاع الوظائف والمنتجات، لكنهم في نظر السياسات العامة مجرد "متهربين" ينتظرون جباية ضرائب أو حملة تفتيش، في حين يحاولون النجاة من دوامة الغلاء والركود وتجاهل الدولة.
حكاية حمادة: أربعون عامًا من النجارة ولا أمان
يبدأ التقرير مع حمادة، النجار الخمسيني الذي يعمل منذ عام 1983، حين كان "صبياً" في ورشة يملكها نجار سوري، حتى أصبح اليوم صاحب ورشة أثاث في القاهرة. يقول: "أبدأ كل مشروع كأني أبدأ من جديد، لا يمكنني تسعير قطعة قبل أن أعرف أسعار الخشب في الصباح، وكل زبون يتعامل معنا كأننا جشعون، مع أني أشتري بالدين".
حمادة يعمل وحده غالباً، فلا يملك المال لتوظيف عمال دائمين، ويطالب بدعم حكومي مباشر، خاصة حين تُرفع الأجور الرسمية، لأنها تُحمّل على الورش بينما الحرفي لا يملك الحد الأدنى للاستقرار.
"راح الرزق": تغيير المهنة بحثاً عن النجاة
أبو معاذ، كان عامل سيراميك قبل أن تجبره إصابة في العمود الفقري على التقاعد المبكر، فبدأ من جديد في تصنيع المنظفات منزلياً.
"كنت أحقق أرباحاً جيدة، واليوم العلبة ارتفعت من 8 إلى 12 جنيهاً، والأسعار تتغيّر كل يوم. لا أريد دعماً مالياً، فقط رقابة على الأسعار حتى لا أغرق".
الألبان المحلية: حلم صغير يصطدم بعمالقة السوق
سمير شرف، من الزقازيق، حاول تقديم منتجات ألبان طبيعية من دون مواد حافظة، ويشغّل 14 عاملاً بتمويل ذاتي، لكن المنافسة مع المصانع الكبرى، وغياب الدعم الضريبي، جعلا مشروعه أقرب إلى التهديد منه إلى الفرصة.
"لو وفّرت الدولة مزارع أبقار صغيرة مربوطة بالمنتجين، يمكننا الاستمرار. لكن حالياً السوق غير عادل، ولا قانون يحمي".
شهادة جامعية... وورشة موبيليا
هاني الأسواني، 37 عاماً، حاصل على بكالوريوس، لكنه اختار ورشة الأثاث على العمل المكتبي، واستثمر مدخراته كلها في الورشة.
"أخشى القروض البنكية بسبب غرامات التأخير. نحتاج لدعم في الخامات المحلية والمعارض، فالصين وتركيا لا تنتصر علينا بالجودة فقط، بل بالدعم".
الجلود بين الحرفة والتسويق الرقمي
الزهراء محسن، معلمة من الزقازيق، تدير مشروعاً منزلياً للمصنوعات الجلدية رغم عدم تسجيله رسمياً.
"أدفع آلاف الجنيهات للمشاركة في البازارات. بدأت دورة تسويق رقمي لأعرض شغلي، لأن المنصات مكلفة والتسويق صعب".
الخبراء: الدولة تُجبي ولا تُساند
يشخّص الخبير الاقتصادي أحمد ذكر الله الأزمة قائلاً: "الحكومة تتعامل مع الاقتصاد غير الرسمي بمنهج الجباية، لا التنمية، فهي تريد الضرائب والتأمينات دون توفير تدريب أو تسويق أو تمويل".
ويقترح إعفاءات ضريبية مؤقتة، وشراكات مع جمعيات أهلية لتقديم الدعم التقني والترويجي، بعيداً عن البيروقراطية الحكومية.
أما المحاضر الاقتصادي معتز عسال فيقول: "معظم الحرفيين لا يملكون الوعي القانوني، ما يؤدي إلى أخطاء تؤدي لفشل مشاريعهم، ولا توجد مبادرات كافية تبني ثقة حقيقية مع الدولة".
ويطالب بدعم التجارة الإلكترونية والتدريب، وتحفيز العمل الحر عبر بيئة تنظيمية مشجعة ومستقرة.
الخبير عبد الحفيظ الصاوي يرى أن "الأعباء الضريبية تخلق قطيعة بين الدولة والورش"، ويقترح تشريعاً ضريبياً عادلاً يربط الضرائب بالخدمات، مع ضرورة تنظيم معارض منخفضة التكلفة ودعم التمويل بفوائد لا تتجاوز 10%.
5.9 ملايين يعملون لأنفسهم... ولا حماية
بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء تكشف أن نحو 5.9 ملايين يعملون لحسابهم الخاص، بينهم 1.4 مليون دون أجر، وهناك نحو 25 ألف ورشة في القاهرة فقط.
ورغم مساهمة هذه الورش في تقليل البطالة إلى 6.3%، إلا أن القطاع يواجه مشاكل هيكلية في التمويل والتنظيم والهيكلة الإدارية، مقابل فرص كبيرة في التصدير والتوسع الرقمي.