بينما عادت إسرائيل إلى الحرب بشراسة أكبر من السابق، في تخلٍّ عن التزاماتها كلّها بموجب اتفاق وقف إطلاق النار، الذي جرى التوصل إليه بشقّ الأنفس بعد 15شهراً من الحرب والوساطات والمحاولات، وحتى الانقسامات الداخلية الإسرائيلية بشأن جدوى الحرب وأهدافها والهزيمة وخطط "اليوم التالي". ولمّا كان ضحايا اليوم الأول من الحرب المُستعادة أكثر منهم في أشدّ أسابيعها قساوة (قبل الاتفاق)، فإن الدول العربية المُستهدَفة بمخطّط التهجير، وما يمثّله من تهديدات وجودية، عادت إلى بيانات الإدانة والتنديد والشجب، وعادت بعض نُخبها إلى نهجها، القائم على لوم الضحايا، وكأنّ في وسعهم فعل شيء ولم يفعلوه.

عاد العرب إلى توصياتهم حركة حماس (والفصائل) بالاستسلام، وكأنّهم ليسوا أدرى بعدوّهم ومدى التزامه الاتفاقات التي ينقضونها أكثر ممّا ينقض المرء وضوءه يومياً، فنحن نتحدّث عن احتلال صهيوني استيطاني لطالما وعد بدولة فلسطينية بعد اتفاق أوسلو (1993)، لكنّ تلك الدولة تحوّلت إلى مجرّد سلطة أمنية تقوم بالمهام نيابة عنه، وفي تماه تامٍّ مع المطالب الأميركية الإسرائيلية بدولة فلسطينية بلا فصائل ولا مقاومة، وشبه منزوعة السلاح، إلا من حرّاس الكيان بلباس فلسطيني.

 

عادت مصر والأردن إلى لقاءات مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، بعد تهليل مصري أردني واسع لتلك الزيارة، متناسين واقعاً سياسياً يقول إن الزائر واحدٌ من أخلص الصهاينة، وإنه قد يكون جزءاً من خطّة التهجير، وخططٍ مأساوية تتعلّق بالمستقبل الفلسطيني. ثمّ جاء الاحتفاء باتصال الرئيس الأميركي، ترامب، بالمجتمعين ضمن اجتماع ثلاثي فرنسي مصري أردني بشأن غزّة، وبما يثير شكوكاً في أن ماكرون كان في مهمّة في القاهرة، بعلم وتنسيق مع ترامب، لنعود إلى مسلسل الاحتفاء بالعبث واللاشيء، والجري في المكان، ولتنطلق التحليلات بأن ترامب سيغلّ يدَ بنيامين نتنياهو عن التهجير، بعد الاجتماع الثلاثي المصري الفرنسي الأردني. ولكن ترامب بدا بعد المكالمة أكثر ثقةً وإصراراً على خطّته لتهجير سكّان غزّة، من واقع تصريحاته رفقة نتنياهو، بعدّة تصريحات، إذ استنكر خروج إسرائيل من غزّة سابقاً: "لا أعلم لماذا سلّمت إسرائيل لهم هذه الأرض، فعلوا ذلك لأنهم وُعِدوا بالسلام. إنها أخطر أرض في العالم". ثمّ يعود ليصف غزّة بأنها "قطعة عقارية مذهلة، إذا أخذنا الفلسطينيين ونقلناهم إلى دول أخرى، فسيكون لدينا منطقة حرّة رائعة. إنه موقع ممتاز، والناس يرغبون في العيش فيه، وجود قوة سلام مثل الولايات المتحدة هناك تسيطر على غزّة وتمتلكها سيكون أمراً جيّداً"، و"قطاع غزّة أشبه بمصيدةٍ للموت، وهو مكان خطر للغاية، ويحتاج إلى سنواتٍ لإعادة إعماره. لذا سنسمّي غزّة منطقة الحرية بعد نقل السكّان منها"... إذاً، الرجل الذي يقيّد حرية التجارة في رِدّة عما أنجزته الماركنتلية التجارية العالمية عبر قرون، ودعاة العولمة منذ منتصف القرن الماضي، يريد جعل غزّة منطقةً "حرّةً"، ويريدنا تصديق ذلك، بينما نرفض منطق الواقع الذي يقول إن غزّة قد تكون حالياً المنطقة المتحرّرة الوحيدة من النفوذ الأميركي أو التي تحاول التحرّر منه، ومن وكيله الاستعماري في المنطقة، بينما العواصم كلّها حولها محتلّة أو متواطئة بالصمت مع أسوأ بقايا الجيوب الإمبريالية العالمية.

عادت مصر والأردن إلى تقييد الحقّ في التظاهر بشكل عام، والحقّ في التظاهر لدعم فلسطين بشكل خاصّ، إلا ضمن نطاق استدعاء الجماهير لتأييد المواقف الرسمية، تلك المواقف التي تتراجع بدورها (ما يظهر من التسريبات هنا وهناك)، نحو الضغط على حركة حماس والفصائل، للتسليم بسقوف أدنى تتمحور حول نزع السلاح مقابل إدخال المساعدات. ثمّ تعود مصر إلى تبرير دور الوسيط، الذي يتحوّل تبريرياً إلى دور "البوسطجي"، إذ يبدو أن مصر عبد الفتاح السيسي يعجبها هذا الدور في المفاوضات، وهو تقزيم أيضاً لدور الوسيط الوظيفي الذي أصبحت تشاركها فيه أطراف أخرى في كلّ ما يتعلّق بالقضية الفلسطينية. والحقيقة أنه غير مبرّر، فمصر طوال تاريخها وفي أضعف حالاتها لم تكن كذلك أبداً، بل كانت لها مواقف أكثر صرامةً وقدرةً على إيقاف الحروب، وتحويلها حروباً خاطفة بالضغط على إسرائيل، وليس "حماس" والفصائل الفلسطينية. ودور الوسيط هذا مفهوم لو لم تكن مصر دولة جوار، ولو لم يكن لها مصالح مباشرة أو غير مباشرة، أو أنها تتوسّط في قضية لا تخصّها أساساً، من قبيل نزاع حدودي بين كمبوديا ولاوس مثلاً.

المصيبة أن مصر تتراجع عن عدة ثوابت، ونسيت تقريباً أن الانسحاب من محور فيلادلفي في أول المفاوضات السابقة كان خطّاً أحمرَ، ومطلباً أساسياً بالنسبة إليها، وبالتبعية محاولة إرجاع الأوضاع إلى ما قبل الحرب. أمّا اليوم، فهي لا تقبل فقط باحتلال رفح كلّها وبسيطرة إسرائيل عملياً على القطاع، بل أيضاً تنقل مقترحاً يشمل نزع سلاح الفصائل، وكأنّه اقتراحٌ صاغه ستيف ويتكوف وبنيامين نتنياهو، ثمّ تعود لتقول إن ناقل الكفر ليس بكافر، وهو ما يتوافق مع مواقفَ إقليميةٍ أخرى ترفض المشاركة في أيّ عملية لإعادة الإعمار بمشاركة "حماس".

هذا المستوى من التراجع العربي غباءٌ مفرطٌ أو إجرامٌ متعمّد، فمن يدرك ألف باء أمن قومي يعرف أنه إذا تخلّصت إسرائيل من خصومها في لبنان وفلسطين واليمن، فستتفرّغ تماماً لمصر والأردن وسورية، وستُضعف الجميع كما تفعل مع إيران التي تتفاوض على كسب وقت أو مقايضة مراحل معينة من برنامجها النووي، مقابل تقليص نفوذها في الخارج ليس أكثر. ومع ذلك، هي ضدّ نزع السلاح، وإذا جرى نزع السلاح وسيطر الكيان على الحدود المصرية، فإن هذا ينذر باحتكاكات واستفزازات مستمرّة، وهذا كارثي.

الحماقة والعار الذي يحاول نتنياهو إلباسهما لمصر والعرب، أنك تقايض نزع السلاح بإدخال المساعدات الإنسانية، وليس حتى باتفاقٍ لوقف الحرب والتهجير وإعادة الإعمار. القضية هنا ليست "حماس"، ولوم الضحايا في هذا السياق لا معنى له في ظلّ أن الحركة قبلت معظم ما طرحته مصر بمنتهى المرونة، سواء الموافقة على لجنة مجتمعية لإدارة غزّة أو غيرها، المفترض أن الوسيط (المفاوض العربي)، يفهم أنه جزء من مفاوضات على مستقبل المنطقة التي يحاول ترامب إعادة رسمها لصالح نتنياهو، فتخضع تماماً كلّ الأنظمة لسيطرة اليمين الإسرائيلي المتطرّف ورغباته وشطحاته.